مولود بوفلجة - تنغير / جديد أنفو
لا يستقيم الحديث عن الأغنية البلدية أو العيطة الفيلالية، وهي التسمية المناسبة في نظري، دون الحديث عن شريف الحمري لارتباطها باسمه و لدوره المتميز في إثراء و إغناء هذا النوع من التراث و إشاعته بفعل التأصيل والتثبيت و التجديد و الإبداع.
حل مولاي أحمد الحمري والد شريف، و كان يشتغل عطارا، بمدينة قصر السوق سنة 1944 قادما إليها من زاوية سيدي احمد مول الواد بالشماعية التابعة لنفوذ اليوسفية حاليا، و اقترن بحليلة من زاوية مولاي علي الدقاق بمدينة الريصاني فأنجبت له من الذكور ثلاثا ومثلهم من الإناث رضعوا جميعهم من ثدي آلهة الفن و الإبداع و تفرقت بينهم أسلحته ، فاختارت منها شريفة الريشة و الألوان و لها في باب التشكيل انجازات مشهودة و صيت ممتد إلى خارج رقعة الوطن و تفرد مولاي علي بالكلمة الجميلة يحبكها شعرا و يطرزها نظما ، على حد تعبيره، و تجمعت خلاصة الإلهام وعطية الإبداع في شخص شريف الحمري الفنان البسيط بساطة أهل تافيلالت، الشامخ شموخ نخيلها ، العميق عمق وديانها، المتقلب المزاج تقلب جوها ..
كانت إشراقات البداية بثانوية ابن طاهر حيث ترنم الشريف بتوجيه من بعض أساتذته بأغاني الشيخ عيسى إمام في زمن كان مجرد السماع لأغاني الرجل يعد جرما..ثم وجد شيوخ المنطقة في هذا الشاب الموهوب ملاذهم و استثمروا طاقاته المتفجرة فأضحى مصاحبا لهم في الحفلات "القْصاير" عازفا على آلة الاكرديون "الرويبيز"، كما كان أهل لبلاد يسمونه، فأبدع مع مولود الكاوي و ميح وغيرهم لكنه لم يجد ضالته و امتداده وعنفوان توهجه إلا مع الشيخ محمد باعوت الذي لم ينل فنه ما يستحق من اهتمام لأنه سقط في مسمع آذان صماء تاجرت به و سوقته فلكلوريا .
مات باعوت و خلف رحيله خسارة للعيطة البلدية :"باعوت كان بانا و خلانا و مات ." الموت هذه الحقيقة الوجودية الثابتة أرغمت الشريف على تحمل اليتم الفني فكانت انطلاقته الجديدة بعد الانطلاقة الأولى في بداية ثمانينات القرن الماضي فأبدع و جدد وخلق روائع "عويد الباكور" ،"نمشي معاك "و صيحة "الله إداوي الحال" و الأغنية الساخرة "مسكين ايا باحو" و اللائحة لا تنحصر. فأحسن الانتقال و الانفلات من فعل الاسترجاع و التقليد إلى الإبداع و الصنعة و ظلت شخصية باعوت هي "التابْعة" الملهمة من منطلق أن "الشْيخ بلا شْيخ لو عْمْر جْبْحو خاوي ما لو مْبْدا و لا تْمام" كما قال أهل الملحون.. ولعل غياب الأخد عن الشيوخ هو ما جعل الجيل الجديد من فناني البلدي يقفون على أبوابه دون أن يمتلكوا مفاتيحها.
الحمري فنان يبدع داخل أسئلة محيطه تافيلالت الواحة في اتصال واع بثقافة أهلها لأنها جزء من ثقافته و نشأته و صباه ..هو متواضع حد المسكنة ،معتز بذاته و فنه حد الخيلاء ،متعدد ومتنوع حد الاختلاف مع الذات، يجيد العزف على مجموعة من الآلات منها العود و الكمان و القيتارة والاكورديون و السنيترة معشوقته الأولى التي يتفنن في صناعتها بأنامله لتكون طيعة مستجيبة لخالقها، ولا يتردد لحظة في إهداء مصنوعاته من السنيترات إلى الأصدقاء المقربين إلى نفسه ، و هم قلة، مترفعا عن أخد المقابل المادي ، كما يحيي الحفلات لمن أحبته نفسه منهم مجانا. إنه لا يتردد لحطة في إعطائك قرصا مدمجا يضم مئة أو أكثر من أغانيه. إنه ندي عفوي لا يعرف البخل و لا التكلف طريقا إلى نفسه.
الحمري فنان متعدد المواهب يُعنى بالخط و الرسم و الأدب خفيف الظل و صاحب نكتة .إنه فنان يقف في المنطقة الفارقة بين العبقرية والجنون، الأغنية البلدية متنفسه الذي يحتمي به حين تضيق الواسعة بما رحبت فيدخل محرابه بشارع ابن بطوطة الذي لا ينال شرف دخوله إلا المقربين الذين يصطفيهم من "الرفاكة" الاولى التي ظلت وفية لروح المرحوم باعوت كعلي ططوش و محمد بن عبد الله الزنبيل فيختلي بالآلات الموسيقية يغازلها ويراودها عن نفسها حتى تقول هيت لك.إنه الإله أوقيانوس في العيطة البلدية الذي منه تنبع الأنهار و تتفرق الينابيع و العيون.
لكننا عهدنا من مدينتنا و من مغربنا أن يتنكر للمتميزين من أولاده و يحتفي بالفارغين الذين يجيدون لعبة الهرولة ولأن المغاربة الحقيقيين كما قال أحد سياسينا هم الذين ينتظرون حتى يموت الرجل العظيم منهم فيقيمون له ضريحا و يسمونه، أمغار"، لذلك لم يجد شريف موضع قدم له لولوج الإعلام الرسمي بالشكل الذي يرضاه لأن قنواتنا تسوق لثقافة و أغنية الرباط و سلا و ما جاورهما إلى درجة أصبحنا نتصور معها أن المغرب منحصر في ثلاثة أو أربعة وجوه يتفننون في تكرار أنفسهم وتقليد بعضهم للأخر في احتفاء ممسوخ بالكلمة الساقطة و الأجساد البدينة المترهلة الراقصة في تغييب مقصود للأغنية الجادة كالعيطة الجبلية أوالعيطة الفيلالية التي يكتفي القائمون على الشأن الإعلامي بجعلها مؤثثا فلكلوريا.إننا نحس بامتعاض كبير و نحن نستمع الى تقاسيم الحمري و ماياته في محطات إذاعية وقنوات تلقزيونية مغربية وعربية دون ذكر اسمه من باب نسب المجد إلى صاحبه وللتمثيل لا الحصر أذكركم بموسيقاه التي صاحبت حوار المدرب بادو الزاكي مع قناة الجزيرة الرياضية .
الحمري الآن موظف بسيط في إحدى المقاطعات الحضارية يقابلك بابتسامته المعهودة تارة و بمزاجيته الحادة تارة أخرى يوزع" أوتوغرافاته "على ظهر وثائق إدارية مقابل درهمين فقط لن يضعهما في جيبه طبعا و إنما في خزينة الجماعة التي تنكرت له كما تنكر الأصدقاء ،فمن باب الترشيد ووضع الإنسان المناسب في المكان المناسب كان حري بنا أن نجد الرجل يعلم الأطفال و الشباب أبجديات الموسيقى في معهد موسيقي أو في دار الثقافة، خصوصا إذا علمنا أنه يمتلك تكوينا أكاديميا في فن الموسيقى.
الحمري خلق ليبقى خالدا متجددا ينفض الغبار في كل مرة ظنوه انتهى و ينبعث من رماده مثل طائر الفينيق .هو واحد من رجال البلاد الذين تركوا بصمة مرورهم واضحة و "رجال البْلاد لا يموتون رجال البلاد حْيِّين أُوْ نايمين ."
مجرد غيض من فيض في حقك شريف لأننا لا نستطيع أن نوفي بحقك كاملا و نتمنى الشفاء العاجل لنجلك و امتدادك الفنان الحمري أمين ..آمييين..