وضع جميع ما يحتاجه من طعم وشصوص وخيوط ... في حقيبته ، ألقى بها على كتفه ، حمل الصنارة بيمناه ، ثمانسل من باب المنزل إلى الخارج من دون إحداث أي ضجيج قد يوقظ الأولاد النائمين ... إستحث الخطو نحو الوادي ،ليظفر باختيار المكان الأحسن ، والأكثرأسماكا ، قبل أن يأتي الصيادون فيضايقوه ويقللوا حظوظه من الصيد ...ويفوتوا عليه فرصة الإستمتاع بمسك الأسماك ، وإثبات الأهلية والمهنية بذلك ...
هيأ الطعم بالصنارة ،رفع وجهه إلى السماء: ـ يا فتاح ، يارزاق ... ألقاه بالنهر، إنغمس في الماء ، بينما طفا "الغماز" على السطح وهو يشير إليه كعادته :
ـ يرجى الإنتظار.
تمتم : ـ ألفنا الإنتظار ، وألفنا .
ركز عينيه على الغماز منتظرا غيابه وسط الماء ، عله يسحب سمكة تبهج نفسه وتنعشها قبل أن تنعش جيبه ...
إنتظر طويلا وعيناه مركزتان على "الغماز" ، طال انتظاره ، بدأ الملل يدب إليه ... فكر في تغيير المكان ، مد بصره عل طول الضفة ، عله يرى مكانا مناسبا بعيدا عن باقي الصيادين ... رجع ببصره إلى صنارته ، رأى الغماز في مكانه على الصفحة الزرقاء لا يتحرك ، مشيرا إليه هذه المرة :
ـ السمك لا يتجاوب الآن ، يمكنك إعادة المحاولة لاحقا ،أو تغييرالزمان و المكان ...
لم يكن بإمكانه تغيير الزمان أو المكان ، لأنه مع جميع زملائه يصلون الليل بالنهار، على ضفة النهر ممسكين بصناراتهم ، منتظرين تجاوب الأسماك معهم ، دون كلل ولا ملل ... أعاد المحاولة مرة ومرة ... مركزا نظره دائما على الغماز ، متأهبا لجذب السمكة العلقة بسرعة... وعلى حين غفلة منه غاب الغماز وسط الماء ، ولم يعد يظهر له أثر، وبردة فعل سريعة جذب إليه الصنارة ، ظنا منه أن بها صيدا ثمينا ، أتاه الغماز وحيدا بلا صيد ولا طعم ولا شص ، فقد انقطع الخيط الرابط !
تأثر بذلك ، وقلق به ، ولكنه لم يستسلم ، ولم يتوقف عن تكرار المحاولات ، لأن ذلك صار مألوفا عنده وعند باقي زملائه . جدد الخيط والطعم ...
ركز نظره على الغماز : ـ غص يا أخي في أعماق الماء ، وبشرنا بصيد ثمين ...
ـ كيف أبشرك بصيد في هذا الصبيب القليل ، والصنارات كثيرة تتزاحم هنا ؟
ـ فما العمل إذن ؟ هل سنقضي اليوم أنا وأنت هكذا نتبادل النظرات ...؟
ـ زدوا من الصبيب إذن يزداد الخير وتزداد فرص الظفر بأسماك كثيرة ...لدى جميع الصيادين .
ـ هذا ليس بأيدينا .
ـ نظموا أوقات الصيد ووزعوها بينكم .
ـ هذا غير ممكن ، ففترة الصيد محددة محدودة ، وكل واحد يحاول الظفر بنصيبه من الصيد قبل إغلاقها .
ـ إذن يرجى الإنتظار .
ـ ألفنا الإنتظار وألفنا .
ظل ينتظر ، أمسى ينتظر ، بات ينتظر ، وصل الليل بالنهارقاطعا مساره المألوف على ضفة النهر، ذهابا وإيابا ، صعودا ونزولا، ينتظرأن يغنم ولو سمكة واحدة حتى لا يعود إلى بيته خاوي الوفاض ...
مل الإنتظار ، وتحطمت معنوياته النفسية ، وانهدت قواه الجسمية ... فكر في الإنسحاب ، والعودة إلى بيته ، فاليوم في اعتقاده يوم شؤم بالنسبة له ، والحظ بعيد التبسم له ... مد بصره على طول المسار الذي أنهكه طيلة اليوم ، نظر إلى حقيبته الفارغة من الصيد ، ماذا سيقول لأسرته ؟ ماذا سيقدم لها بعد هذه الغيبة الطويلة عن البيت ...؟ نقل بصره إلى النهر متأملا مياهه التي لم تستطع أن تمده بسمكة واحدة ، فكر طويلا ، مد يده إلى حقيبته ، أخرج منها مذكرة وقلما كعادته ، ليدون حصاد يومه ، كتب ما شاء أن يكتب ، ثم جمع صنارته ووضع حقيبته على ظهره ، وانصرف عاقدا العزم على إعادة المحاولة مع مزيد من الصبر ورباطة الجأش ، وعدم الإستسلام... فإن بخل النهر بصيده ، جاد هو بصبره ...
دخل بيته منهوك القوى ، وضع حقيبته واستلقى عل ظهره بجانب صنارته في إحدى الزوايا ، تراءى له الغماز يرسل إليه مجموعة من الرسائل :
يرجى الإنتظار .
تم مسك صفر سمكة .
السمك لا يتجاوب الآن . المرجو إعادة المحاولة ، وفي حالة استمرارالمشكل يمكنك تغيير الزمان والمكان مع التزام المسار.