تداول رواد الشبكة العنكبوتية شريط فيديو لتلاميذ أثناء إحدى المظاهرات التي  اندلعت بحر هذا الأسبوع احتجاجا على نظام مسار .ما ميز هذا الشريط هو المقطع الذي يظهر مجموعة من المتعلمين، وقد افلحوا في جعل رجال الشرطة يرضخون لإرادتهم ويطلقون سراح بعض زملائهم الذين تم احتجازهم داخل سيارة الأمن الوطني. إنها صورة غير مألوفة لدى المغاربة، قد تمر أمام أعين الكثيرين مرور الكرام، لكنها تبعث رسائل قوية لمن أراد أن يفهم ما شهده و يشهده المجتمع المغربي من تحولات عميقة على عدة مستويات.

في البدء نشير إلى أننا لا نهتم البتة بالأشخاص الذين ظهروا في الشريط المصور، بقدر ما نهتم بالحدث الذي نحاول أن نجعله يعري لنا الكثير من النقط المعتمة في حياتنا اليومية. فتجرؤ التلاميذ المتظاهرين على رجال الأمن الوطني ،و وصول الأمر إلى تحرير المقبوض عليهم يمكن، أن يقرأ قراءات متعددة ، لكن المهم هو أن الحدث قد وقع ،وبين كونه ايجابيا أو سلبيا ستختلف الآراء .لن نتوقف عند اعتبار ذلك بذرة للوعي بالحقوق والدفاع عنها في بلد يرزح تحت نير الاستبداد، فهذا موضوع آخر.

غريب أن نرى الشرطة في هذه الوضعية بلباسها الرسمي و بما تحمله من أسلحة ، وبما تستقله من وسيلة خاصة  للنقل ،و الأكثر من ذلك كله بما لها من هيبة لا يعلم مقدارها إلا المغاربة الذين خبروا صولات اليد الطولى للمخزن وجولاتها. تلك إذن هي الشجرة التي تخفي الغابة ، فأمام اندفاع الشباب أو المراهقة بالأحرى، تنهزم أعتى السلط، وكثيرون هم الذين انكسرت شوكتهم أمام هذا  الجيل الصاعد دون أن يتم تصويرهم، فلا نتمكن من التفرج على مآسيهم. كلنا نعلم أن هذه الأمواج البشرية التي تنتفض لم تنزل من كوكب آخر، بل هي منا والينا ،لكن تمر السنون ونحن مطمئنون لا نكاد نلقي بالا إلى حالهم، مادام الأمر مكتوما داخل أسوار مؤسسات يقال عنها زورا وبهتانا أنها منفتحة على محيطها، هؤلاء المندفعون يقضون أوقاتهم في قاعات مكتظة تصل حد50 تلميذا.

وقد تم تسليمهم إلى شخص لا سلاح له و لا بقيت له هيبة إلا سلاح المعرفة . لكنه سلاح لم يعد ينفع في زمن ووطن استقال فيه الكل من تحمل مسؤولياته ،الكل استحال مسخا مقرفا و العياذ بالله .فحينما يراد للمدرس أن يقاوم التغييرات ، ويتشبث بالمثل العليا ،يتم غض الطرف عما يقع من حوله .فيراد له أن يكون مثل الشجرة التي لا تنحني أمام العاصفة، فيكون مصيرها محتوما. فهل ما زال التلميذ هو التلميذ؟ في صورته السابقة التي نعلمها ونجلها جميعا . وقبله هل ما يزال الأب هو الأب؟ و الأم هي الأم؟ الشارع هو الشارع؟...  ليس حقدا على النشء، بل شفقة عليه فهو ضحية تملص، و في أحايين كثيرة انهزام الأسرة، الإعلام، المجتمع المدني ، و الدولة قبلهم جميعا .كلهم استقالوا من وظائفهم التربوية فلا يزايدن علينا احد في مقدار انشغالنا بمصير أبنائنا،  وغيرتنا عليهم، فبئس الأمة التي تتبرم من ذريتها و تنظر إليها شزرا. ما عسى أن يكون مصيرها ، غير أن تقبع في ذيل الأمم، فقد يضحك على كل الجيل كل الوقت لكن ليس على المنظمات الدولية والتي لا تعرف المحاباة.وكي لا نكون منحازين، نقر بان ثلة من المربين انضمت إلى جحافل المستقيلين. لكن من باب الإنصاف، نشير إلى أن عددهم ازداد عندما وجدوا أنفسهم بين المطرقة و السندان. وكلنا نعلم مآل هؤلاء  الذين اختاروا البقاء أوفياء لمبادئهم و عدم الانحناء أمام مختلف الإكراهات  و الإغراءات. الحالات بادية للعيان، فلابد لأي منا أن يكون قد انتبه إلى البون الشاسع بينهم وبين زملائهم الذين لا يتوانون عن خلع جبة الأستاذ، و القيام بادوار أخرى لا تمت للتربية  والتكوين بصلة. لكن إن ظهر السبب ذهب العجب. إن اغلبهم و هم ذاهبون إلى مقرات عملهم لم يعد يشغل بالهم ،كما يفترض، الجانب البيداغوجي والديداكتيكي، كما كان الحال ذات يوم .بل ما يؤرقهم هو الجانب السلوكي، يذهبون إلي المؤسسة و هم على يقين أنهم سيواجهون تكرار رنات الهواتف النقالة ،والرسائل القادمة إلى المتعلمين بأجوبة الواجبات و الامتحانات. وهم ذاهبون أيضا يضعون في حسبانهم أن واحدا أو أكثر ممن يودون إنقاذهم من غيابات الجهل، قادم إلى القسم حاملا سلاحا ابيض ،أو متناولا أقراصا مهلوسة. وقبل الدخول إلى القسم كان قد رفع تحديا أمام زملائه و زميلاته ،بأنه سيربك الدرس أو سو ف يغش في الواجب المحروس بأي وجه كان، فلكم كان الأستاذ عرضة للاهانة و الشتم بل للاعتداء البدني، مما يجعله يدخل في متاهات لا نهاية لها في ردهات المحاكم، و في النهاية يوجه اللوم إليه ،لان التلميذ يبقى تلميذا لدى المغاربة.

    قد يقول قائل إن بعضهم يستحق ما يحدث له نظرا لما يصدر عنهم من سلوكات غير لائقة. حسنا ،حتى لو صح الأمر  فوفق هذا المنطق ،يعني هذا أننا نبرر و نشجع الصراعات الأفقية بين فئات الشعب التي تستنفذ طاقاتها في صراعات جانبية .كان الأولى أن تكون في غنى عنها، لكي تواجه اللوبيات المتحكمة في مصير البلاد و العباد .ضعف الجاني و المجني عليه ،و الطرف الثالث منكب على قضاء أوطاره .لذلك نجد عددا لا يستهان به من المدرسين تأقلموا مع هذا الوضع الشاذ، وأصبحوا يواجهون هذه المعضلة باجتهادات شخصية. لا ضير عندهم إن ربحوا بعض راحة البال والجسد ،وتفادوا الحوادث المربكة، و إن على حساب نجاح المهمة الموكولة إليهم، فهم مجبرون لا مخيرون .المهم هو أن يجعلوا الجرة تسلم، فيكفيهم ما يجود عليهم به هذا الزمان من منغصات، إن على المستوى المعيشي، أو على مستوى  صورهم النمطية في المخيال الجمعي للمغاربة، خصوصا مع انتشار فيديوهات التنكيل بالأساتذة، في العاصمة الرباط ،التنكيل الذي يكاد يتزامن مع الزيادة في أجور أفراد القوات المساعدة ، ولكم التعليق أيها السادة .كيف سيعمل المربي و المدرس الذي لا يحمى ظهره ؟فان هو طبق القانون، و حارب الغش أصبح العدو اللذوذ للأغلبية من المتعلمين و الآباء على السواء ،و حتى للعاملين في الميدان مع الأسف. فما بالك إن احترم معايير التقويم العلمية، وأعطى لكل ذي حق حقه .هل منظومتنا التعليمية قادرة على تحمل واستيعاب الراسبين في كل المستويات أفواجا أفواجا؟ هل الآباء و الأمهات الذين ما فتئوا يختزلون مسيرة أبنائهم بحذافيرها في مجرد نقطة على قطعة ورق، أو على بريد فلذة كبدهم الالكتروني، تمكنهم من الاحتفال مؤقتا بنجاح مزيف، هل سوف يتقبلون الأمر؟ هل الدولة لها الجرأة الكافية للاعتراف بالحالة المزرية التي ستنكشف حينئذ؟ تلكم بعض الأسئلة المؤرقة و الضرورية لوضع الأصبع على الجرح ،أو للجوء  إلى آخر الكي. هذا إن لم يصدق هؤلاء القائلون : لقد مات التعليم في المغرب ،حاله حال الملك سليمان .بقي القوم منخدعين بمظهره الخارجي مؤمنين ببقائه على قيد الحياة ،وفرائصهم ترتعد رهبة من جبروته، بينما روحه كانت قد صعدت وبدون رجعة إلى السماء . فان حدث و أعاد التاريخ نفسه ،فما علينا إلا انتظار أن  تأتي ربما  ارظة ما، وتقوم بعملها .تلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون.

    كثيرة و لا تحصى الأسباب التي أوصلت  المنظومة التعليمية إلى ما هي عليه، لكن مسالة الاكتظاظ فعلا كانت بمثابة رصاصة الرحمة.  فكأن الأمر لم يعد يتعلق بالتدريس و التكوين ،بقدر ما يتعلق بالحجز أو اللم من الشوارع، لان هناك طبعا من ليس في مصلحته أن يبقى جيش عرمرم خارج الأسوار، و الكل يعلم أهمية الهاجس الأمني لدى مسؤولينا . فعوض أن يشيد لهم المزيد من المؤسسات التي تستوعبهم في شروط تربوية و إنسانية لائقة، يتم الزج بهم في قاعات متردية، مزدحمة، و مقاعد قليلة ،وخصاص مهول في الموارد بشرية. ولكم ثمنت ملاحظة احد الزملاء حين عمد إلى التنبيه إلى ما شهدته حياة المغاربة من تغيرات، فيكفي مقارنة المنازل و المساجد والحمامات  الحالية مع مثيلاتها في الستينات و السبعينات خاصة من حيث ما يصرف عليها من أموال، نفس الشيء يقال عن المأكل و الملبس . لكن الأمر على النقيض تماما بخصوص المؤسسات التعليمية، لا زالت هي هي ،بل تتدهور على أغلب الأصعدة، المطعم ، الداخليات ، الملاعب، البستنة. . . وكأن الزمن توقف كل هذه العقود فتم حشر جيل جديد له خصوصياته آماله و آلامه و. . . و. .. في قالب قديم متهالك ،كمن يلبس شخصا في العشرين من عمره ملابسه حين كان في السادسة ، النتيجة واضحة وحتمية، ستثخن الملابس  الشخص آلاما وهي تشد جسمه المترعرع، قبل أن تتمزق طولا و عرضا ، فلا الملابس بقيت صالحة ،ولا الشخص احتمى بها من البرد أو الحرارة، ولا هو سترت عورته.

 

 تنبؤ غير سار :

اولى اعراض حمى برنامج مسار ظاهرة تقديم الفروض مع اجوبتها على السبورة. نحن لا نرجم بالغيب لكننا نحسن ربط الاسباب بالنتائج ، ولا يسعنا سوى ان نقول "وا فكها يا من وحلتيها" .