زايد جرو* – الرشيدية
 
 منطقة تافيلالت بالجنوب الشرقي المغربي، من أكثر المناطق المغربية جذبا لليهود الوافدين على المغرب منذ القديم، وتاريخ التواجد اليهودي في هذه المنطقة قديم جدا حسب الكثير من الباحثين في التاريخ ،فاستقروا بالريصاني وقصر كيغلان وقصر مزكيدة  على بعد كيلومترات من مركز الريصاني .. فما هي الادلة التاريخية والعلمية المؤكدة للتواجد اليهودي بتافيلالت وقصر مزكيدة بشكل خاص ?وما  هي العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي تربط الساكنة باليهود داخل القصر؟  وما هي الاسر التي تركت بصمتها بين الساكنة ?وما هي المصالح المتبادلة  التي شكلت الذاكرة المشتركة  ليستمر التعايش السلمي بينهم لعقود من الزمن ؟

 العديد من الواحات والأحواض كانت مأهولة باليهود من سوس إلى درعة وتودغى إلى زيز وغيرها، كـما أكد ' عبد الله استيتيتو' ، والباحث اليهودي 'ناعوم سلوش'، وغيرهما ممْن أشاروا إلى كون اليهود استوطنوا تافيلالت منذ القديم، وكانوا من بين العناصر التي لها السبق للاستقرار بالمنطقة لارتباطها بالسودان وتومبوكتو جنوبا إلى جبال الأطلس شمالا و كما تؤكده أيضا  البقايا الأثرية والفكرية والتقاليد التي كانت وما زالت قائمة وحاضرة لحد اللحظة، حيث ورد في ' الاستبصار في عجائب  الامصار ل محمد الفاسي   أن اليهود استقروا بسجلماسة وغيرها لكونها باب المعادن ومحطة التجارة ،و كانوا جزءا من النسيج الاجتماعي والاقتصادي لهذه المناطق، وهم فئة نشطة خاصة في مجال الحرف اليدوية والتجارة المعيشية، ولهم السبق في تطوير التعاملات المالية حيث تركوا إرثا ثقافيا في مجال المخطوطات والنقش..

 والنبش في التاريخ اليهودي بتافيلالت على ندرة وثائق محلية مفصلة يرغم الباحثين على استرجاع هذا التاريخ من أربع مصادر تكاد تكون موضوعية لإعادة تركيب الأنماط التي عاشتها هذه الفئة من خلال العلاقات والتفاعلات الاجتماعية بقصور تافيلالت: : (16451727 م)

 أولها: الكتابات الفرنسية.

 ثانيها: العقود والوثائق المحلية التي قد تكشف عن بعض جوانب حياة هذه الفئة.

 ثالثها: كتابات اليهود عن أنفسهم.

 رابعها: الرواية الشفهية من خلال التعايش السلمي بينهم وبين الشرفاء والأمازيغ والعرب، جنبا لجنب، والحديث عن تاريخ اليهود بالمنطقة يستلزم ويستوجب التمحيص والتدقيق والمقارنة كما أشار صاحب كتاب ' يهود المغرب وحديث الذاكرة'  عمر بوم بترجمة من الباحث خالد بن الصغير.

 فالتواجد اليهودي بتافيلالت والتعايش المتفرد بينهم وبين قصر مزكيدة يستدعي بالضرورة الوقوف على العناصر التالية :

1 -  قصر مزكيدة  التاريخ والعمران  والبنية الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية.

 مزكيدة قصر مخزني بمواصفات القصور الاسماعيلية أو التي بنيت على عهد السلطان مولاي إسماعيل( 1645  1727.) بالريصاني بإقليم الراشيدية بجهة درعة تافيلالت ينتمي لجماعة ايت خباش التي تم تحويل اسمها الى جماعة الريصاني حاليا لاعتبارات مخزنية، والقصر على بعد (5 كلم) من المركز شمالا، وواحته تمتد طولا حتى قصر أولاد الزهراء التابعة ترابيا لـ'عرب الصباح زيز'، وهي المنطقة التي كانت تشكل خطرا على اليهود في تنقلهم للتجارة وصلة الرحم من الريصاني عبر مزكيدة في اتجاه أرفود.

قصر مزكيدة بالريصاني

القصر أبراجه مربعة ببرجين في المدخل وبرسومات ترمز للنخلة، ومعينات ترمز للمرأة، والمثلث المقلوب الذي يرمز للكبش أو الحمل. وكلها رموز ذات إيحاءات مرتبطة بالخصوبة، مما يبين تعايش الساكنة مع الثقافة الأجنبية والمحلية. . وذاكرة القصر قوية ومتنوعة من التاريخ للأمكنة للسلاطين للأسوار والرسومات للدروب إلى المشغولات اليدوية الحرفية.

اقتصاد القصر مبني على ما تنتجه الواحة من خلال حقول تقليدية تسمى' الكمون' بنقط ثلاثة فوق الكاف تزرع فيها مزروعات مجالية مختلفة حسب الفصول وهي منتوجات تقليدية كـ (التمر، الزيتون، التين العنب، الفصة، الزرع، الجزر، الفول، لملوخية، الكرعة، الطماطم، الحار، الوركية، القزبور، لمعدونس، النعناع، الشيبة… ) إلى جانب تربية المواشي وحرف خزفية من جريد النخيل كـ (لقفاف، شواري، طباق، زنابل، حصائر …) أما الجانب البشري فهومتنوع: الشرفاء، الأمازيغ (ايت خباش) والعرب واليهود في تجمع سكاني متشابه وبباب واحد يدخل منه الجميع في علاقات اجتماعية متفردة ويتعايش طبيعي سلمي فريد. 

فلاح من ساكنة القصر 

التعايش بين مكونات بشرية مختلفة من حيث العرق

2-  يهود قصر مزكيدة والعلاقة الاجتماعية مع الساكنة.

 أكبر دليل على التعايش الطبيعي والسلمي بين ساكنة القصر ويهود مزكيدة، هو وجود درب خاص بهم بالقصر يسمى 'درب ليهود' وما زال قائما وحاضرا لحد الساعة،حيث استقرت الأقلية اليهودية بين المسلمين في أمن وأمان،وما يرافق ذلك من معاملة يومية بين كل الفئات العمرية (نساء، اطفال، شيوخ). دربهم وبيوتهم بالقصر في معمارها هي البيوت نفسها لساكنة القصر، ولا تمييز في هندستها، وكان لهم بئر خاص بهم وفرن يقيمون طقوسهم الاحتفالية في المناسبات ونهاية الأسبوع في احترام تام دون مضايقات في نفس الدرب، والعلاقة في البيع وممارسة الحرف تميّزت بالاحترام ايضا مع التميز الخاص بهم في امتهان حرف بسيطة كـ “تخرّازت، اللحام، بيع الخضر والسمن والسكر والزيت والشاي وصنع لبرادع والخياطة. والسر في ذلك حسب الرواية الشفوية لآهالي القصر أنهم كانوا متفردين في الحصول على المواد الأولية أو الشبه المصنعة لارتباطهم بشبكة تجارية منظمة تربط بين الدار البيضاء وفاس وتافيلالت ضمن ما سماه الباحثون بـ' الاقتصاد الصحراوي' بحماية من المخزن وزعماء القبائل من ذوي النفوذ لليهود الذين كانوا بمثابة وكلاء اقتصاديين يربطون بين المراكز الحضرية والقروية.

درب اليهود بالقصر

3-  الوضع الاجتماعي ليهود قصر مزكيدة.

يهود القصر كانوا من الطبقة الثانية اجتماعيا لارتباط وضعهم بالحرف وبالمشغولات اليدوية أو المنزلية البسيطة المرتبطة بالواحة  الا اليهودي رفّوع وأبناؤه بقاماتهم الطويلة ومنهم “ياهو” و”يحيا” الذين كانوا  يتاجرون في “الفضة”، بخلاف اليهود الذين كانوا يسكنون الحواضر كالريصاني وأرفود وقصر السوق كانوا من الطبقة الأولى يمارسون حرفا أرقى كصياغة الحلي والذهب، أو التجارة بين الدار البيضاء وتافيلالت. والوضع الاجتماعي لفئة يهود القصر كان بسيطا كساكنة قصور تافيلالت الأخرى، يبيعون عائدات المنتوجات المجالية من حقولهم أو الخزفية من نخيلهم بالريصاني أيام السوق الثلاثة في الأسبوع (الأحد، الثلاثاء الخميس) ويعودون في المساء على دوابهم أو راجلين في أمن للقصر بعد العصر أو قبل غروب الشمس بقليل، نساؤهم تعاشرن  نساء القصر وتتبادلن ادوات التجميل واللبس والتزيين معهن ولا تنعزلن بالدرب إلا لأمور شخصية جدا. وتجلبن الماء من بئر خاص بهن، وحين يجف تحملن “القلات” إلى بئر المسجد ولا تتطاولن على حبل دلو البئر، بل تنتظرن أحد المارة من ساكنة القصر ليملأ لهن “القلات” حسب الرواية الشفهية لساكنة القصر، ولا خلاف إلا في المآتم حيث يحمل اليهود موتاهم للمقبرة اليهودية بالريصاني قرب الملاح.

4-  الاسر والعائلات ا اليهودية لتي استقرت بالقصر .

 أ .'  يحيا الربّاط  ' اليهودي المزكيدي (بتثليث نقط الكاف).

هو من الأسر اليهودية البسيطة التي استقرت بقصر مزكيدة وأسرة “يحيا الربّاط”( انظر الصورة اعلاه )  كانت تقطن بدرب ليهود وسط القصر، وكان يتنقل بين مزكيدة والريصاني والخملية ومرزوكة وارفود، معروف بحرفة ربط الأواني المنزلية المكسورة والمشغولات اليدوية بالواحة وبمهنته أصبح ينعت ويلقب بـ”الرّبّاط” بتشديد حرف الباء لأنه يربط بين المكونات، مألوف لدى النساء، ولا يشكل خطرا عليهن، وحتى اذا دخل الرجل من الواحة ووجده بالبيت، فإنه يعلم مسبقا أن تواجده أصلا هو من اجل المنفعة، ولا ضير في ذلك مادام حرفيا، وكانت للنساء رغبات ملحة وكبيرة لسماع كلامه المختلف، ولكنته المتميزة، حيث ينطق السين شينا ولفظة “سيدي” ينطقها “شيدي” وهوما يثير الكثير من الفضول لدى النساء في معرفة بعض من حياة اليهود بالقصر حسب الرواية الشفوية لـ “احماد جرو” أحد ساكنة مزكيدة الذين عايشوا اليهود بالقصر في الأربعينيات وهو جندي متقاعد شارك في حرب الرمال لينتقل في السبعينيات إلى الصحراء كجندي للدفاع عن الوطن إلى أن تقاعد بطنطان ومازال حيا وبقواه العقلية يحكي الآن بتدقيق رفقة 'ويجيل موح ' و ' لهوير ' و غيرهم يحكون كل  التفاصيل  الدقيقة عن يهود القصر وعن هذه العلاقات الاجتماعية المتفردة ورواياتهم متشابهة سردا ومتنا  في مرحلة الاربعينيات مما يقوي صدقها ويقوي طبيعة البحث عن اسرار عيشها.

الثمن الذي يتقاضاه الرباط يحيا ذو اللحية البيضاء من عمل “ترباطت” ليس بالضرورة أن يكون نقدا، بل يكون العمل مقابل منتوجات مجالية فلاحية كالتمر والخضر أو العلف أو الحبوب، وطال مكوثه بالقصر ورحل إلى “احياتن” بالريصاني بداية الخمسينيات ولم تنقطع صلته بالقصر حيث يمارس مهنته بباب الدار الكبيرة وكان ايضا ثقابا للأذان واستمر تردده على الساكنة حتى أصبح المثل يضرب بلحيته فكل شخص له لحية بيضاء ينعتونه بلحية الرباط في حالة الغضب، أو في نشوب مشادات كلامية أو خصومات طائشة بين الأهالي.

 صورة حقيقية ليحيا الرباط

ب - اليهودي ولد حكون (بتثليث نقط الكاف) أو ولد حقون الملقب بـ عكون'.

يهودي من قصر مزكيدة أيضا كان بقالا يبيع الخضر بالريصاني، وبالقصر كان يبيع بعض البضائع ذات النفع العام بمنزله كـ (لفتيلة، غاز لمبّا، لمبات، الشمع، السكر، الشاي) والى جانب عمله بالسوق، وبالقصر كان يعقد عقودا تجارية على شكل “رهن” أوديون بـ (الطّالوع) بتشديد حرف الطاء المصطلح المتداول في تافيلالت والذي يسمى حاليا بـ (الربا). وانتقل بعد ذلك لمدينة أرفود وبها استقر إلى أن رحل.

ج -اليهودي الملقب بـ 'رفوع '.

رفوع كان من الطبقة الأولى كان يبيع الفضة بالريصاني ويعود في المساء كالعادة للبلدة من أبنائه “ياهو” و”يحيا” وحسب الرواية الشفوية كانا ذوي قامة طويلة،ورفوع كان له بيت كبير بالقصر وأملاك بالواحة قبل أن يبيعها أثناء الرحيل للريصاني لأولاد مينة قدور. ومنهم أيضا “شلومو” الخراز وكان يخيط الدلاء وهو آخر يهودي غادر البلاد ،ومنهم كذلك اليهودي الملقب بـ “ميعير” واليهودي الملقبب “يشو” وزوجته الملقبة بـ “عبيشة يعقوب” وكان يعيش معهما يهودي فقير اسمه سالي.

ومن الأسر اليهودية التي كانت تزور يهود مزكيدة قبل سفرهم أواخر الخمسينيات : “ولد بْراخَا” الذي كان يبيع السمن والزبدة والدهان بأرفود و”ايكون النقيرا” حداد بالمعاضيد، و”ياهو ولد الديواني” بائع الكتان و”أولاد الصابوني” الذين كانوا يبيعون أجزاء الدراجات العادية والنارية.

 يهودي' خراز ' يسكن بارفود ويزور اهله بمزكيدة

 د – المصالح   والتعايش  ذاكرة  جماعية مشتركة  بين اليهود وساكنة القصر دامت عقودا من الزمن.

 علاقة اليهود بالقصر كانت علاقة طيبة في احترام تام وبحماية من القبيلة ومن المخزن سواء في زمن الاستعمار أو الاستقلال وما يرغبون فيه هو الحماية بناء على ما يرددون بينهم “البارح كنا نقول مرحبا بـ “شِيدْ القبطان” واليوم نقول مرحبا بـ “شِيدْ القايد” بنطق السين شينا أي لا مشكل في السلطة سواء أكانت استعمارية أو مخزنية مغربية وما يهم هو والاطمئنان والعيش في أمان.

الساكنة بقصر مزكيدة أخذت من اليهود بعض الحرف كالخرازة التي زاولها عبد الرحمان يامني الخرّاز، واللحام الذي أتقنه “عمر بن التهامي اللّحام” وبتافيلالت أو بالجنوب الشرقي عموما حافظ اليهود على لسانهم وعاداتهم ولم يتلقوا اي مضايقات لكون ساكنة الجنوب الشرقي هادئة وصدرها رحب ويتسع للتعايش مع مختلف القوميات، وكانت قيادات القبائل تأمر باحترامهم لان حمايتهم فيه حفاظ  على الثروة الاقتصادية، وساهموا في إدخال اللغة العربية لمناطق أمازيغية بحكم تجوالهم وتعاملهم مع الناطقين بالعربية وبحكم مزاولة التجارة،وتعلموا ايضا اللغة الامازيغية حتى اصبح الحديث في كتابات الباحثين عن “تمزيغ اليهود” فرحلوا  واختفوا  بتنظيم محكم  بلغتهم الأصلية وباللغة الأمازيغية والعربية وبعادات اللبس والتزين والغناء والأكل في فترات متقاربة من سنوات الخمسينيات.

 رحيل اليهود من سجلماسة بين 1958 و 1964

إن  الدليل القاطع على  التعايش  السلمي  المشترك لقرون  بين اليهود وساكنة القصر  هو الحنين والرغبة في العودة  للأصل  وكان التنسيق  بين جمعية مزكيدة للتربية والثقافة والعمل الاجتماعي  قبل كورونا لعودة حفدة يهود القصر  لدرب ابائهم واجدادهم عبر وكالة أسفار بمراكش ،لكن الوباء حال دون ذلك،

زيارة سياح للاطلاع على تاريخ اليهود بالقصر

ولا يمكن نسيان المقطع الغنائي الذي رددته احدى اليهوديات مع وفد من النساء أثناء زيارتهن لـ “أسرير” بتنجداد  باقليم الرشيدية  والذي يقوي الارتباط والتشبث بالمكان ويمكن تعميمه على كل مناطق الجنوب الشرقي هو قولها اثناء العودة لهذا القصر“أوراغ يِوَيْ لاز أوراغ يِوَي فادْ، ديغد اديزيرغ ْمدنينو” في ما معناه “مجبناش جوع، مجبناش لعطش جيت نزور ناسي وأهلي “والعبارة كافية للتعبير عن نوع العلاقة بين الساكنة بالجنوب الشرقي واليهود الذين عمروا طويلا بقصور المنطقة ويجب ان يستمر هذا التعايش من وجهة نظري للعلاقات الانسانية بالدرجة الأولى  ،ولكونهم جزء لا يتجزأ من الساكنة وقد ساهموا بشكل او بأخر في بناء الذاكرة الجماعية المشتركة لقصر مزكيدة حيث مازالت الاسماء السالفة الذكر على لسان الساكنة لحد الساعة.

 *كاتب مهتم بالتراث المادي واللامادي بجهة درعة تافيلالت من مؤلفاته / أوراق من تودغى / عروس تدغى / شذرات من واحات درعة تافيلالت.

الصور حقيقية  بكامرتي الخاصة وصور اليهود من ارشيف الطالب الباحث في الدكتوراه الاستاذ  لحسن الجاكاني مهتم بتاريخ اليهود بسجلماسة.