
يمكن اعتبار الجدران / الحائط صحيفة عموم الشعب حيث يتم التعبيروالخربشة عليه بكل أريحية وبكل اللغات حتى الدارجة منها والمتدنية بلهجة سوقية ... صحيفة لا تتطلب أعمدة مرصنة او مرقمة ، بل هي صحيفة العامة التي تحتضن القارئ والأمي والمشاغب بطبعه ، وهي مفتوحة على كل الكتاب والقراء بسلطة موقعها المباشر . اما خطها التحريري فلا ضوابط قانونية او اخلاقية له ... ورسمها الكتابي / الفني لا يحتاج الى النظارات لمن قل نظره لان حجم الكتابة او الخربشة براق ومثير، ويسهل التفاعل معه والتمعن فيه ... أولى الملاحظات التي يتم استخلاصها هي ضرورة التمييز بين الكتابات المفتوحة على الفضاءات العامة ، وأخرى مغلوقة بتموقعها المحدود ويتم تداولها ضمن حقل تواصلي محدود في الزمان والمكان والفئة العمرية ...
قبل الوصول الى الدلالة السيميائية " الخطابية " لبعض الكتابات (والتي يمكن أن أتطرق إليها في مداخلة أخرى) فلا بد من التذكير أن الكتابات الجدرانية لها مرجعيتها التاريخية عند العرب من خلال العرض السنوي للمعلقات الشعرية على جدران الكعبة إبان "العصر الجاهلي" ونقر مسبقا باختلاف المنتوج وصيغة التعليق او الكتابة المباشرة على الجدران و المساحات المسطحة... فيما كان الامازيغ أكثر وفاء للبيئة والوسط المعيشي وتم تصريف الكتابة والرسومات بكل بساطة اجتماعية على أحجار/ جلود حيوانات / وشم على الجلد الادمي الحي ... ، انها أطلال الأمازيغ الأوائل كشواهد على الكتابة الحائطية " الكهوف " الضاربة في القدم ... فالإنتقال من عملية تعليق المنتوج الأدبي او نحثه على الحجر هو نقلة نوعية للسلوكات البشرية الدفينة بالتجديد والتدوين التاريخي ، وتفريغ شحنتها المتزايدة يتم عبر نشر المنتوج خفية وعلانية للجمهور المتلقي بعبارات قصيرة ودلالاتها الإيحائية أكثر امتداد في الحقل التواصلي ...
فإذا كان نمط نشر الابداع الجانح - (من حيث اللغة المشاغبة او المعارضة السياسية ) - تعاكسه وتعارضه القوانين التشريعية من حيث الاخلاق الاجتماعية المتعارف عليها بالتداول او التنصيص التشريعي . فإن الجدران يصبح هو المساحة المباحة للإستعمال للعموم ولا يتطلب لا مطبعة ولا جهد الاستنساخ الورقي بتكلفته المالية والبيئية ، ولا رخصة مسبقة من وزارة الثقافة للنشر والتداول ... ونقر سلفا أن المنتوج الكتابي على الجدران تيمته الدلالية حصرية بالفئة المنتجة له، وكذلك الفئة المستهدفة منه بواقع الحال من حيث العرض والطلب وكذلك الدوافع الباطنية وراء انتاجه وإخراجه .
وحتى يتعرف الجيل الثاني بعد الإستقلال على دور الكتابة الحائطية ، فان الجدران إبان الحماية الإستعمارية استعمل كوسيلة نضالية تحرض الوطنيين على المستعمر ، وكذلك كان وسيلة تستهدف الخونة بالتشهير وتضييق الخناق الشعبي عليهم ... فيما تم نقل الجدران من مستوى اللحمة الوطنية ضد المستعمر الى صفحات مفتوحة - (ما بعد الاستقلال ) - معارضة لتنزيل الدساتير (مثلا ) الممنوحة كما كانت توصف من طرف النخبة السياسية المعارضة...
فالأحزاب المعارضة وبعد التضييق الذي كان مرارا يطال مطابعها وسحب أعداد جرائدها بالتوقيف و الحجز ، استعمل مناضلوها الجدران كملمح بديل ووقعه مباشر مع المواطنين وأدبه النضالي/ السياسي يدون ليليا ... فمنظومة " لا للدستور المزيف " كانت تزين غالبية الجداريات الحائطية ابان تنزيل أي استفتاء على الدستور في المدن" المارقة بمعارضتها "للسياسة النظام الحاكم ، من حيث شد الحبل بين القصر والأحزاب الوطنية – هذا الفعل الذي ضيع على التنمية الوطنية نصف قرن من الزمن السالب ...- بلون أزرق ترسم مجموعة من اللاءات ضد النظام " نسبة الى اللون الازرق الذي كان يفيد " لا للدستور في مراكز الاستفتاء " كتابات تصبح ولا تمسي بفعل ممحاة السلطة اليقظة بعيون رجالاتها ... انها لعبة القط والفأر... ومن الأكيد الإشارة الى ضرورية أن المنتوج الكتابي المعارض على الجدران اتسم بأسلوب حضاري سليم لا يحمل أية الفاظ نابية او قدحية ... من تم يمكن ان نستنتج ان جريدة الحائط ما هي إلا العناوين الكبرى للمنتوج الصحافي الورقي على قلته في تلك المرحلة التاريخية ...
والمسألة الأولية هي أن ليست كل الكتابات الجدرانية كانت تحمل مضمونا سياسيا وإنما هناك كتابات مفتوحة تحمل بين طياتها مطالب اجتماعية (جماعية او فردية) توجه بصيغة المبني للمجهول الى ولاية المظالم ولمن يهمه الامر... انها بكليتها ترفض الظلم وتتوق نحو الافق الافضل والفسيح للحرية والعدالة والكرامة بشموليتها ، او تعبر عن الذات الفردية المضغوطة بمكبس الاستبداد حتى من عون السلطة كآخر رمز للنظام التسلسلي السلطوي ...
في حين ان بعض الكتابات " المغلوقة " – نسبة الى الفضاء التي تم تأليفها على جدرانه - فهي تسكن جدران المدارس والإدارات العامة ومقاعد الحافلات والقطارات ... والأمكنة التي يتم تداول استعمالها فرديا مما يجعل الفرد يفجر طاقته الابداعية الدفينة في داخلها وأي بقعة فيها ما هي إلا صفحة بيضاء كسوتها تعابير غير منسجمة لا في "اللغة " ولا في الشكل الهندسي للخط ككتابة... كتابات لغتها بسيطة جدا لا تحكمها الظواهر اللغوية فهي تستحمل الاخطاء بحديث حدث ولا حرج ...اما من الجانب المعرفي لها فإنها تعبر عن الذات والحلم الدفين في تحقيق "رغبة ما " ...حلم اليقظة يسقط عنوة على الجدار ويستبيح خلوة القارئ عنوة بالإطلاع عليه ولو جزئيا ... الوصفة القيمية من حيث المواضيع المدونة على جدران الأماكن المغلوقة يغلب عليها الطابع الجنسي بمكبوتاته من حيث التعبير او الرسم الدلالي بصيغة غير مألوفة الشكل ...
ومن البديهي ان للمرحلة العمرية تأثير واضح على المنتوج الأدبي والفني على الجدران بين الطفولة والمراهقة والشباب .... انها تعبر عن كثلة النضج العمري / الفئوي التي يتم تصريف ابعادها كقضايا ومطالب وآمال وتمثلات ابعادها ثنائية (الذات/الاخر )... لكن كمها ينغمس جله في النسق " الجنسي الاباحي " او في مسار اللعب غير المصنف إلا بوصفة العبثية كنزق الشباب المندفع ...
ان الكتابة على الحائط /الجدران ما هي إلا عملية لنقل المعرفة في سذاجتها البدائية ، وكيفما كان مستواها الدلالي الى الاخر المجهول باختلاف جنسه وتموضع زمانه ومكانه . هي اذا كتابات غير مصنف بالجدولة الزمنية التواصلية إلا من خلال حجبها بالطلاء ...فمعظم الكتابات لا تقصد اي مخاطب (ة) بعينه (ها) وإنما الذات المكبوتة في تعبيرها تروح عن النفس بالخطاب المستور(كرغبة يقظة لحلم كابس على النفس ) وراء جدار / سور يسعه بالرحمة والأمن...
فالرحمة الداخلية بسور الحائط يحتمل نزق الشباب بكل أريحية تعبيرية . فضلا عن أنه إسفنج يمتص صدام الاجيال - (كحضارة ) - والتي ظاهرها الخارجي يستوطنه حضور قوي للأخلاق والمجتمع وأعراف الوسط الاجتماعي... الان و في الطفرة المعلوماتية اصبح الجدار / الحائط صحيفة من يعيش الكفاف المعلوماتي في تطور حوامله العالمية ، او في فقر الحيلة واليد والتي لا تبقى إلا التخطيط الناقم للوضع على الحائط الاصم. الذي لا يشتكي لأحد ويتحمل سوء اللفظ والدلالة الاباحية للرسومات وجماليته تنتهك يوميا .....
الانتقال من الخربشة على الجدران الى التعبير السليم هو انتقال من حلم اليقظة الى الواقع الحقيقي لقضايا للمجتمع ...فالمجتمع المدني والسياسي هو الكفيل بخلق نقلة نوعية في مجال احتضان الشباب بالتأطير وزرع السلوكات المدنية كرافعة اساسية للتعبير عن الذات والحركية الاجتماعية بكل حرية ومكاشفة ، بدل دفنها بالحياة على جدران المراحيض العمومية .