حنان الشاد
الوطن، كلمة تحمل في طياتها العديد من المعاني، الوطن أم ، احتواء، أمان، استقرار، وجود وهوية، كل المعاني الكونية تعني الوطن، لكن.....
حينما يتسبب البشر في تغيير هذه المعاني، وتغلف المفاهيم بغلاف الزيف والأنانية والمصلحة الذاتية، تتحول الحياة لواقع كله صدمات وسكيزوفرينية لأبعد الحدود قد تؤدي إلى انسلاخ الجسد عن الروح والهروب من الذات بالانتقام منها لا منهم..
مقدمتي هذه قد يغلب عليها الطابع السلبي، لكن الوطن وطني ووطنك مهما التمسنا له من الأعذار وحاولنا تلوين واقعه بالألوان الزاهية حتى نصادف مواقف تجعلنا نتوقف عندها للحظات، قصد التأمل العميق وفهم الخبايا بل ويدفعنا الفضول لاكتشاف ما وراء تلك الابتسامات الحزينة، أو تلك الدموع الممزوجة بالخوف، وحتى الخطى الثابتة نحو الدمار..
في مقالتي هذه سأحاول أن أشارككم تجربة حقيقية من بين التجارب الأخرى التي أمر بها وتصادفني كل يوم. ومن واجبي كممارسة للإعلام الحقيقي والصريح أن أوصل صوت المستضعفين ولو بالقليل لعل الضمائر تحيى والوطن يحن ويعطف..
القصة التي سأرويها هنا، عفوا التي سترويها لكم "ليلى" الفتاة الثلاثينية ليس سوى نموذجا واحدا من ملايين النماذج ببلادنا الحبيبة، سأترككم معها مع اعتذارنا على الإطالة قليلا:
مرحبا، إسمي ليلى وسني 30 سنة على ما أعتقد، أقل أو أكثر لا أدري، لأني بنت الخيرية، "بنت الحرام" كما ينادونني منذ طفولتي، وجدوني ملفوفة أمام باب خيرية ، ترعرعت هناك مع مجموعة من النزلاء من مختلف الحالات، منهم متخلى عنهم ومنهم عجزة وآخرون أمراض عقلية، منا من كان يتابع دراسته ومنا من كان يبقى فقط بالمؤسسة من أجل النوم والمأكل واللباس. وغالبيتنا نحن من درسنا لم نستطع متابعة دراستنا أو بالأحرى لم نتلقى المتابعة الضرورية والتوجيه الضروري ومن بينهم أنا حيث تعرضت لحادث داخل المؤسسة أصبت فيه بحروق على مستوى القدمين لمحاولتي إنقاذ رضيعة نشب بجناحهم حريق مهول، امتنع الموظفون عن التدخل فبادرت أنا بإنقاذها وذاك كان السبب الأول لتوقفي عن الدراسة.. تلك المرحلة صادفت انتقال المدير الطيب وقدوم آخر مختلف تماما عن الذين سبقوه، وهو ما أعطى صلاحيات اكثر لموظفي المؤسسة بالاختلاس واستغلال المقيمات خاصة منهن المريضات عقليا، من تحرش واغتصاب إلى درجة الحمل دون حسيب ولا رقيب، والفئة المتعلمة والواعية منا إن حاولن التدخل أو الإبلاغ يقوم المدير بمعاقبتهن بسجنهن في غرفة مظلمة دون أكل أو شرب، على أي حاولت متابعة الدراسة والحصول على الباكالوريا حامدة الله رغم الظروف على الأقل أحتمي بجدران المؤسسة عوض التعرض للشارع و مخاطره ، خاصة وأن السياحة الجنسية موجودة في بلادنا بوجه أو بآخر ولا أعلم إن كانت مقننة أم لا لأنني وبفترة وجودي بالمؤسسة كان لدي زميلات تمارسن الذعارة بعلم المسؤولين بحجة الحصول على المال، حتى أنه كانت فترات أو ممكن تسميتها مواسم في فصل الصيف، تقف بباب المؤسسة سيارات سوداء تحمل مجموعة من الفتيات القاصرات من المؤسسة بترخيص من المسؤولين، ودفعني الفضول مع إحدى الصديقات للاستعلام عن الأمر والتنصت ، فاكتشفنا أنها شبكة ذعارة خاصة بالخليجيين الذين يأتون للاستجمام بالمغرب يعقدون صفقات مع مثل مؤسساتنا ليستغلوا فتيات قاصرات جنسيا وطبعا المبالغ المالية طائلة وكل من له دخل يستفيد والفتيات أيضا لهن نسبتهن، تختفين لمدة طويلة لا أحد يهتم لأمرهن، وكيف يهتمون إن كان أولياؤهم رموهم دون رحمة ولا شفقة.. فاليتم كلمة قاسية جدا خاصة بالنسبة لنا نحن بدون أصل ولا فصل، نعيش طول حياتنا في احتقار و "حكرة" وكأنه ذنبنا، والطامة الكبرى بل والصادم هو حينما يتخلى عنك الوطن أيضا، حينما يكون قانون بالدولة يفرض عليك مغادرة "الخيرية" لاستيفائك السن القانوني إلى الشارع مباشرة، إلى أين؟ لا ضمانات ، لا مستقبل ولا شخصية قوية ممكن أن أواجه بها العالم الغريب والموحش خارج جدران المؤسسة، كتر خيرهم أعطوني مهلة شهر للبحث عن مخرج، يا سلام ونعم الحلول.. وذلك ما قمت به رحت أبحث عن أسرة كانت ترعاني عن بعد منذ طفولتي، الاعياد والدراسة ومال قليل ادبر به نفسي من حين لآخر، قلت مع نفسي لعلهم يجدون لي حلا فأكيد لن يتركوني أضيع في الشارع، تأكلني الكلاب الضالة وأفقد شرفي وعنفواني البسيط، قصدت بيتهم بالرباط لكن أخبروني أنهم رحلوا إلى مدينة وجدة، ولم اعد اتوفر على رقم هاتفهم، ماذا أفعل؟ توجهت إلى مقر عمل رب البيت ووجدت أحد أصدقائه الذي كان يعلم بقصتي معهم هو من أعطاني رقم هاتفهم تصدق علي ببعض المال وأخبرت زوجته بالأمر فطلبت مني أن ألحق بهم إلى وجدة ولأنه ليس لدي أوراق ثبوتية والمؤسسة احتفظوا ببطاقتي الوطنية لم تكن لدي وسيلة لأتسلم نقودا ترسلها لي عبر وكالة مالية، لم اجد المال لاستقل الحافلة من الرباط إلى وجدة، خجلت من التسول فقصدت مركز الشرطة وشرحت لهم موقفي فاخبروني أنهم المساكين ليس لديهم مال و يشتكون ويبكون، الحقيقة أشفقت عليهم أكثر من نفسي، ماذا أفعل أنا إذا؟ أنا بالشارع يا بشر، يا ممثلي القانون والسلطة.
قضيت 15 يوما بالشوارع جائعة لا رحمة ولا شفقة والذئاب تحوم حولي كل ليلة يرونني فريسة، إلى أن ساق لي رب العالمين شخصا رآني أبكي، أخبرته القصة فقام بشراء تذكرة لي فقط إلى مدينة مكناس، هناك حيث وصلت لم أجد سوى الشارع والغربة، أين أذهب؟ كلما قصدت رجلا أو امرأة نهروني وأهانوني، حالتي كانت مزرية جسمي ضعيف لأني لم آكل لأيام لكنني إنسان ومن حقي المساعدة، جبت الشوارع دون جدوى وأرجع إلى المحطة الطرقية لأبيت طرقت باب إحدى المقاطعات وأدخلوني إلى السي القايد محظوظة لأنني وجدته، فأخبرني المسكين بدوره أنه لا يستطيع مساعدتي وليس لديه ما يعطيني لأستقل حافلة نحو وجدة.. غريب أمر رجال السلطة، أهم فقراء إلى هذه الدرجة؟ جبت الشوارع لليوم التالي وخوفا من ردود البشر كتمت ألمي وكنت أكتفي فقط بالبكاء.. ولسبب ما التقيت بفتاتين رأينني أبكي، قصصت لهما قصتي فهرعتا لمساعدتي دون تردد، شعرت حينها أن الوطن بدأ يشفق علي، تأكدت أن الخلل ليس بالوطن وإنما بالبشر، بالمسؤولين القائمين على أمور المواطنين، بخيبة الأمل في اشخاص وثقنا بهم يوما ورسموا لنا الوطن بلون زهري وقطعوا لنا وعودا ولم يوفو بها، بعدالة اجتماعية شبه منعدمة، بقانون لا يحمي سوى ذوي النفوذ والشكارات، بديمقراطية اجتماعية شكلية تملأ الأوراق فقط، بحقوق إنسان يؤطرها قانون الغاب ووووو.....الحمد لله مازال هناك خير في البشر، سأنفذ بجلدي وأذهب إلى وجدة، سأبحث عن صيغة او حل لعدم عودتي إلى ذاك العالم، لكن مايحزنني اكثر هو باقي النزيلات اللاتي سيصلن يوما إلى السن القانوني لمغادرة المؤسسة، ماذا ينتظرهن بدورهن؟ وتلك المريضات عقليا كم إجهاضا سيجرون لهن؟ وتلك الامهات المتخلى عنهن والآباء اين الرحمة في قلوب ابنائهم وزوجاتهم؟ أما العاهرات كما ينادوهن، الوحيدات من تخرجن من المؤسسة على الأقل بوظيفة محترمة لكسب لقمة العيش ههههههه، ناهيك عن مساهمتهن الفعالة في التنمية المستدامة للبلاد.
هذا كان جزءا بسيطا من حياتي، وما خفي أعظم، لكن ما أرجوه فعلا وبحرقة هو أن يصحى ضمير الوطن، أن يلتفتوا لهذه الفئة من المجتمع، نزلاء المؤسسات الخيرية بأنواعها ، ولعل صاحب الجلالة نصره الله يولي عناية خاصة لمثل هذه المؤسسات كما المعاقين، فهل من حسيب أو رقيب؟