بقلم حنان الشاد
احتفلت بعيد ميلادي العشرين، ليمر شريط ذكريات مزركش الألوان يظهر متقطعا في بعض الزوايا لكثرة الثقوب، منها الكبيرة ومنها الصغيرة، لكن يفوح منها عطر الأمل والتشبث بالحياة.
تذكرت لحظة شعرت بنبض قلبي داخل أحشاء امي، بكل سعادة وشوق تمنيت رؤية ملامحها و مداعبة حضنها ، كذلك أبي الذي كان صوته منبع فضول لدي، ياترى من كان ذاك المخلوق الحنون تارة والعصبي تارة أخرى؟
وأتى اليوم الذي أولد فيه لأجد أخيرا الأجوبة عن الأسئلة التي كانت تراودني، فحاولت فتح عيني في سباق مع نور الشمس حتى أرى وأستوعب أين أنا، وما تلك الضجة من حولي؟ أهكذا يستقبلون المواليد الجدد؟
توالت الأحداث بعد ذلك وتعلمت معنى وجودي بالحياة إلى أن بلغت السنتين من عمري، كنت أرى وأسمع، لكن حركاتي كانت غريبة، لفتت انتباه أمي فأخبرت أبي بذلك.عرضوا حالتي على طبيب أطفال متخصص، ليخبرهم أنني أعاني من "التوحد".لم أكن أجيد الحديث حينها لأخبرهم أنني بخير، لكن والدي صار يبكي من الصدمة ويستفسر عن مرضي وهل له علاج، واستغربت لأمي التي كانت ثابتة تنظر إلي بكل حنان وحب وكأنها تعلم ما بي وكيف أشعر وكيف تتصرف معي.حينها ابتسمت وأحسست لأول مرة بمعنى الأمان.
عدنا إلى البيت، بعد أن أعطى الطبيب بعض التعليمات لوالدي حول التعامل في حالتي، مع أنني كنت أحاول طوال الطريق إفهامهما أن حالتي لا تستدعي القلق، لأنني لست عاجزة حركيا وأنني خارقة الذكاء، لكن ماذا أفعل؟ تركت الأيام والتجارب تعلمهم ذلك.
وتوالت الأيام وأنا وأسرتي الصغيرة نتقاسم اللحظات بفرحها وحزنهاوتعقيداتها التي كانت تسببها حالة"التوحد" التي خلقت بها، إلى أن بلغت سن الرابعة، حينها فكر والدي بضرورة التعليم، فحاولا طرق أبواب عدة مؤسسات تعليمية دون جدوى إلى أن سمعا بالمبادرات التي أطلقها"الملك محمد السادس" بإنشاء مؤسسات تضامنية لذوي الإحتياجات الخاصة، فسجلاني بإحدى المؤسسات لأندمج في الحياة وأطور مهاراتي العقلية والحركية واللغوية، فتحمست جدا لأنني كنت أعشق علم الحساب والرسم، إضافة إلى أنني سأخرج من روتين البيت الذي كان بالنسبة لي سجنا بنكهة الفانيلا التي كانت أمي ترش أرجاء غرفتي بعطرها.
في أول حصة لي بتلك المؤسسة، فارقتني أمي وهي تمسح دموعها، لكنني كنت سعيدة جدا لدرجة أنني لم أودعها بقبلة على خدها، أول ما لفت انتباهي حينها، رؤية أطفال لا يشبهونني ولم يلاحظو وجودي حتى، يجلسون في مجموعات، على رأس كل مجموعة تقف فتاة بالغة تشبه أمي تتحدث إليهم وتلاعبهم أو تعلمهم أمورا لم أعرفها من قبل.رحبوا بي بابتسامات عريضة تصفيقات وصرخات فرح، مما اثار الرعب بداخلي وصرت أصرخ وأضرب رأسي مع الجدار.فهرعت كل المعلمات نحوي لفهم ما يجري لأن حالتي لا تشبه ذوي الإحتياجات الخاصة الذين يتعاملون معهم، بعدها فهمن أنني اعاني من "التوحد". ذلك كان اول لقاء لي خارج البيت، لكن بعدها تعودت على الوضع ونسجت صداقات مع أطفال تختلف حالاتهم من طفل لآخر، لم تكن بيننا نفس الروابط لكن كنا نفهم بعضنا البعض جيدا وبمختلف اللغات.
في يوم من الأيام، نشب شجار بين صديقتي"نرمين" كانت تعاني من الصم والبكم وصديقي" عثمان" الذي كانوا ينادونه ب"المنغولي"، شجار على دمية صغيرة، حينها هرعت إحدى المعلمات لفض النزاع فضربت كليهما بصفعة على الوجه مما زاد الأمر تعقيدا، فامتلأت الصالة بالصراخ والبكاء وكنت من بينهم أيضا أصرخ وأبكي، فتحولت الأجواء من الإرضاء والمصالحة إلى الترهيب والتعذيب.بدون رحمة صارت تلك المعلمة تجلدنا بحزام جلدي وترغمنا على السكوت،في إشارة منها لباقي المعلمات بالخروج والتزام الصمت، كنت أفهم جيدا حينها رغم صغر سني لأن الأطفال في حالتي يتميزون بالذكاء الخارق. لكن تلك المعلمة كانت تجهل ذلك. وانتهت الحصة ورجعنا إلى بيوتنا صديقي لم يكن باستطاعتهما سرد ما حدث، في اليوم التالي رفضت الذهاب إلى المؤسسة، حاول أبي إجباري، لكن أمي لفطنتها فهمت الأمر وحاولت استفساري عن السبب، فأخبرتها بالحادث،لكن أبي لم يكن ليصدقني لأنني طفلة فحملني وذهب بي مكرهة إلى المؤسسة، هناك رأيت تلك المعلمة الشريرة فشرعت في الصراخ والبكاء لكن أبي لم يقتنع كذلك كل الآباء لم يكونو ليفهموا ابناءهم رغم إعاقاتهم الجسدية والذهنية،فانغرس الألم بأعماقي ولأول مرة أتعلم معنى القسوة والظلم في الحياة.
مرت ست سنوات ونحن على ذلك الحال، لا تطور ملحوظ عند كل الأطفال، وكأنها حضانة لحراستنا طوال اليوم فقط في غياب أوليائنا الذين كانوا يحاولون التخلص من مسؤوليتنا وواجب الإعتناء بنا.ثم جلست عند إحدى الزوايا أنا وصديقتي"نرمين" نتبادل أطراف الحديث لأفهم منها أنها هي أيضا غير راضية على الوضع، لكنها عاجزة عن الكلام لتخبر أهلها عن معاناتها في ذلك السجن، والغريب في الأمر أنه حينما زارنا" محمد السادس " كان الوضع مختلفا، أجبرونا على ارتداء ملابس جديدة ، حتى الجدران أصبحت بألوان جديدة،المعلمات ايضا لأول مرة أرى الابتسامة على محياهن وقلت في نفسي:" هل محمد السادس مرعب لهذه الدرجة؟ أم هو ساحر بعصاه السحرية فحول السجن إلى جنة؟" ففرحت جدا لأنني سأقابله ولأول مرة، عساي أخبره بالحقيقة ،لكن المعلمة الشريرة كانت تقف هناك تهدد بنظراتها.
كان يوما لا ينسى، حصلنا على العاب جديدة وملابس وكتب ووسائل تعليمية خاصة، وفرحنا جدا بتقبيل"محمد السادس" الرجل الساحر الطيب، أغمضت عيني لوهلة وتمنيت كيسا من الحوى اللذيذة، وما إن فتحتهما حتى أعطاني الساحر الطيب ما لذ وطاب من الحلوى. وانقضى اليوم ورجعت للبيت لأحلم بالغد، وفعلا اتى الغد بامانيه البسيطة وبشوق لقاء الاصدقاء، توجهت إلى الصالة التي تركتها أمس مليئة بالألعاب والحلوى وأجمل القصص والثياب الجديدة لأصدم ببشاعة المنظر: لم تعد الجدران تلك التي رأيتها بالأمس ولا وجود لألعاب ولا لحلوى ولا للثياب الجديدة، فقط كانت المعلمة الشريرة تقبع في إحدى أركان الصالة وتحمل بيدها الحزام الجلدي. أتراه كان حلما؟
فهمت حينها أن "محمد السادس" ذهب ولن يعود.فعلا استمرت الاحوال على ذلك بل وتدهورت لدرجة أن الشريرة كانت تربط أصدقائي بالحزام الجلدي على كرسي خشبي طوال النهار، ولا أعتقد أن "محمد السادس" عند زيارته لنا كان ليحب ذلك ولكان طردها فورا، لكن في غيابه وانشغاله عن أمثالنا، وفي انعدام المراقبة الدورية وإيكال الأمور إلى غير أهلها، ترعرعنا في ظل الإهمال الأسري والمؤسساتي ليكتب على جبينا طول الحياة:"أطفال معاقين على هامش المجتمع والحياة".
والآن وبعد أن بلغت العشرين من عمري، غادرت طبعا تلك المؤسسة وانا أأسف على حال المعلمة الشريرة، التي أصيب ابنها بالشلل الكلي إثر حادثة سير، فما كان لها إلا أن تستقيل وتتفرغ للاعتناء بابنها يقينا منها أن المؤسسة لن تهتم به كما يجب.صديقتي "نرمين" التي لا تتكلم ولا تسمع حضرت رفقة صديقنا" المنغولي" عثمان ليشاركانني عيد ميلادي، بشهادة ميلاد تنكر لها المجتمع والمسؤولون، وببضع شمعات سالت دموعها من قسوة الإنسان وقهر الزمان.
وإلى حين ولوجي سوق الشغل، سأكتب قصة جديدة بقلم افتراضي، علها تكون بداية حلم جديد يتحقق بعد طول انتظار، في واقع غير الواقع والبشر غير البشر.