خاطب الأساتذة المتدربون وزير الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة قائلين "إرحل !"، وردّ عليهم الوزير "لقد صوت علينا مليون وستمائة ألف مغربي"، هذا ما نشرته الصحافة، وهو يطرح إشكالا حقيقيا على المغاربة البتّ فيه بروية، لأنه يتعلق بمستقبل مشروعهم الديمقراطي.

فقد انطلق الأساتذة في احتجاجهم على الوزير من عدم نجاح الحكومة في إيجاد حل واقعي ومنصف لقضيتهم التي تعكس حالة ظلم حقيقي لا غبار عليه، وانطلق الوزير من واقع أنه ينتمي إلى حزب منتخب جاءت به صناديق الاقتراع، وهي التي ينبغي أن ترحله عن مكانه.

لماذا لا يتفاهم الطرفان ؟ لسبب بسيط هو أن الأساتذة ينطلقون من واقع هو أخطاء الحكومة الآن، وعجزها عن تدبير المرحلة، بينما ينطلق الوزير من واقع آخر ليس بالضرورة مرتبطا بالأول، وهو أن الحزب الذي ينتمي إليه احتلّ الرتبة الأولى في الانتخابات التي جاءت به إلى الحكومة. والحقيقة أن الواقعين معا لا يلغيان بعضهما في السياق المغربي، وإن كان الأمر قد يكون مختلفا في بلدان أخرى، حيث يطرح سؤال جوهري كما سنرى وهو: هل يعني النجاح في الانتخابات تفويضا من الشعب للاعتداء على حقوق المواطنين والعودة بهم إلى الوراء ؟

في المغرب يمكن للمنتخب أن يظلّ في موقع المسؤولية رغم فشله في تدبير الملفات المسندة إليه، بل يمكن أن يُنتخب من جديد ويتم التصويت عليه، رغم تزايد الحنق والسخط ضدّه في الشارع، لماذا ؟ لأن الساخطين لا يصوّتون وهم الأغلبية، بينما تظلّ الكتلة الناخبة للحزب الأغلبي وفية في معظمها على العموم، لأنها مستفيدة بشكل من الأشكال، ولأنها تعتبر الحزب الذي تصوت عليه حاميا لمصالحها، رغم أنها أقلية.

وهكذا قد يكون على الأساتذة المتدربين وعلى النقابات والمعطلين والحركات النسائية واليسارية والليبرالية والأمازيغية والشبابية وكذا المواطنين العاديين الذين اكتووا بنار الغلاء وبالسياسة اللاشعبية للحكومة، سيكون عليهم جميعا أن ينتظروا الأسوأ، لأن عودة حزب الوزير في الانتخابات القادمة ستكون بناء على تذمرهم واستنادا إلى سخطهم، فكلما استمر السخط العام في الشارع ـ في حدوده الحالية ـ كلما ازدادت حظوظ المحافظين في النجاح وقيادة الحكومة بمنطقهم الانتخابي الذي يُحيل على الأرقام والعدد، لا على المصداقية العملية والديمقراطية الفعلية التي تعني قبل كل شيء إنصاف المظلوم وإحقاق الحقوق، وذلك لأن السخط والاحتجاج يساهم في توسيع دائرة المقاطعة عوض التصويت العقابي مثلا، أو اختيار "أخف الضررين".

لقد أصبحت نسبة المقاطعة، التي هي الأغلبية الحقيقية، عاملا غير فاعل وغير مؤثر بالمعنى الإيجابي، ولكنها عامل مؤثر بالمعنى السلبي حيث تسمح بنجاح الطرف المسؤول عن أزمات الناس ومعاناتهم.

غير أنه لدينا ثلاث حالات لنجاح شرعية الاحتجاج في إزالة شرعية الصناديق والديمقراطية العددية، أو تحجيمها في موضوع معين، وهما تونس ومصر وتركيا، ففي تونس استطاع الحراك الشعبي للقوى الديمقراطية أن يطيح بحكومة حزب النهضة الإسلامي بعد فشله في تطويق الأزمة، رغم حصوله على 40 في المائة من أصوات الناخبين، وهو ضعف ما حصل عليه حزب العدالة والتنمية المغربي، كما نجح الشارع المصري في إسقاط حزب "الإخوان المسلمين"، وإن كان لم ينجح في أخذ المبادرة بعد ذلك لفرض الخيار الديمقراطي، مما سمح للجيش بالعودة إلى احتكار السلطة وفرض استقرار هشّ وغير ديمقراطي، بل وبتحويل انتفاضة الشعب إلى انقلاب بعد اعتقاله للإخوان وحظره لهم.

أما النموذج الثالث فقد حدث بتركيا عندما انتفض الشارع في وجه أردوغان المنتخب ديمقراطيا، بعد أن حاول المسّ برموز العلمانية في ساحة اسطنبول، مما جعله يتراجع عن مخططه، فنجح الشارع في إيقافه عند حدّه، حيث لا تسمح له شرعية الصناديق بأن يمسّ بشرعية الأسُس التي تقوم عليها الدولة، والتي تعاقد عليها الأتراك ومنهم حزب العدالة والتنمية التركي نفسه.

يتضح من الأمثلة السابقة أنّ السبب في استمرار نجاح حزب العدالة والتنمية المغربي رغم كل الاحتجاجات التي تشعل الشارع المغربي ضدّه، هو أن قوة الاحتجاج لم تتعدّ أبدا نسبة معينة، كما أنها لم تكتس طابع التمرد أو العصيان المستمر الذي يجعل هيبة الحكومة تسقط وتضطر لمراجعة أوراقها.

من جانب آخر ثمة عامل مهم يتمثل في وجود الملكية باعتبارها الفاعل السياسي الرئيسي، الذي تؤول إليه كل خيوط اللعبة السياسية، مما يجعل حزب العدالة والتنمية في أعين الكثيرين غير مسؤول مباشرة عن أخطائه (خطاب "ما خلاوناش نخدمو")، كما تجعل نسبة هامة من العزوف السياسي عائدا إلى اعتبار الأغلبية الشعبية للانتخابات فاقدة للجدوى، ما دام الملك هو الذي له سلطة القرار الفعلي في الاختيارات السياسية الكبرى للدولة.

يتطلب الوضع إذن مقاربة مختلفة من قبل القوى الديمقراطية المتذمرة والساخطة، حيث سيكون عليها القيام بأمور ثلاثة: التكتل في برنامج عمل في الشارع من جهة، و التحلي بطول النفس في نضالها من جهة ثانية، ثم وهذا أمر لا خيار في ضرورة النظر فيه بجدية، التفكير في التعبئة لمشاركة انتخابية عقابية للمسؤولين عن استفحال الأوضاع.