أصبحت النزوعات الاستبدادية المتغطرسة لرئيس حكومتنا تتزايد مع مرور الأيام ـ فالسلطة والمنصب يغيّران كما يُقال ـ وأصبحنا معه بحاجة ماسة إلى خضّة حقيقية تعيد الاعتبار للمؤسسات ولخطاب الحكمة في السياسة، عوض الرعونة الهوجاء التي أصبح رئيس الحكومة يحتل بها الواجهة، بل ويعتقد أنها من أسباب النجاح في السياسة.
وهدفي من هذا المقال أن أشرح أسباب عنف رئيس الحكومة، خاصة في حواره الأخير مع ميدي 1 تيفي، وما يجعله يخرج عن طور التعقل، إذ يعتقد بعض أتباع الرئيس من السذج البسطاء أن ذلك من علامات القوة، بينما الحقيقة أنه سلوك ناتج عن شعور عميق بالهشاشة والضعف.
فلعل مكامن العطب في وعي الرجل ومن معه، سوء فهمه لدور صناديق الاقتراع وموقعها ضمن آليات البناء الديمقراطيّ، حيث يعتقد أنها تفويض مطلق ليفعل ما يريد بالبلاد والعباد، (من هنا منطق العنف والزجر والردع والعبوس) فإلى حدود الساعة ما زال رئيس الحكومة وحزبه لا يفهمان الأسباب التي تجعلهم يفوزون في الانتخابات، في الوقت الذي تتجه فيه الكثير من الأمور عكس إرادتهم، وهم يلقون ذلك على حساب "التحكم"، لكن الأمر أعمق من ذلك، فعندما يكون مشروعك تحكميا، فلا تنتظر أن تنجح في مواجهة التحكم، لأن المطلوب ليس استبدال تحكم بآخر أسوأ منه، بل الخروج من الاستبداد، وعلى هذا المستوى ما زال رئيس الحكومة وحزبه في الدرجة الصفر التي لا تبعث على الطمأنينة.
يريد "البيجيديون" ديمقراطية شكلية تقنية لا تتعدى صناديق الاقتراع، وهم بذلك يعاكسون فلسفة صناديق الاقتراع، كما أنهم لم يستفيدوا شيئا من نكبة "الإخوان" المصريين.
في الحوار المشار إليه أعلاه، تحدث بنكيران خارج منطق رئاسة الحكومة، وفضل وضع قبعة رئيس حزب معارض (وهو يرأس الحكومة)، هذا الأسلوب ما فتئ يلجأ إليه كلما وُجد هو وحزبه في موقع لا يُحسدان عليه، وما لوحظ بوضوح ـ إضافة إلى التحريض السافر ضدّ مؤسسة دستورية ـ هو الحديث من منطلق خارج الدستور والتزامات الدولة ومسارها الانتقالي. فرئيس الحكومة يعتقد بأن الفوز في الانتخابات يعطيه الحق في الاستهتار بمكتسبات الدولة والمجتمع، إذ يعتقد بأن الذين صوتوا عليه إنما فعلوا من أجل البرنامج الديني غير المعلن لحزبه، والذي يتعارض مع استكمال الانتقال نحو الديمقراطية. وهذا ما جعل حزب المصباح يتناقض حتى مع الأحزاب المشاركة له في الحكومة.
طالب بنكيران المجلس الوطني لحقوق الإنسان بالاعتذار للمغاربة وهو أسلوب شعبوي يرمي إلى اللجوء إلى عوامل التخلف في المجتمع من أجل الاحتماء بها ضدّ أي تغيير قيمي ديمقراطي (المساواة بين الجنسين)، ولهذا يعتمد التحريض لا أكثر عوض مناقشة الموضوع المطروح، لأن مناقشة الموضوع ليست في صالح حزب المصباح والتيار المحافظ، لأن من شأنه إظهار الظلم المسلط على النساء في المجتمع باستعمال الدين، ولهذا تراهم جميعا يتواطئون على الهجوم من أجل إيقاف النقاش أولا وإسكات الأصوات النقدية، وفي الهجوم تعتمد جميع الوسائل غير الشريفة كالعادة، لأن الغاية تبرّر الوسيلة.
اعتمد رئيس الحكومة بدرجة كبيرة على جهل أغلبية الناس بصلاحيات المؤسسة المعنية من الناحية الدستورية والقانونية، حيث أن ما قامت به يقع في صميم اهتماماتها وفق المبادئ التي أقيمت عليها، وستكون مخلة بواجبها الدستوري إذا هي سكتت عن المساواة التامة بين الجنسين، واكتفت بالانتقاء من حقوق الإنسان بعضها وغض الطرف عن بعضها الآخر، فحقوق الإنسان كما ينصّ على ذلك الدستور المغربي "كل غير قابل للتجزيء".
في هذا الإطار لا بد أن نقول لرئيس الحكومة ما يفيده في فهم سبب تعاسته في تجربته الحكومية، وسبب سخط تياره الدعوي، وكثير من أتباعه المغرّر بهم:
إن مشكلة رئيس الحكومة أنه جاء إلى موقع المسؤولية الحكومية في ظل وضع تزايدت فيه المطالب الديمقراطية بعد حراك سنة 2011، ما جعل معيار النجاح في العمل المؤسساتي هو الإصلاح الديمقراطي، وهو ما لا يستطيع حزب المصباح القيام به لأنه لا يريد من الإصلاح إلا محاربة الرشوة والفساد لا غير، والحدّ من سلطة المحيط الملكي من أجل التقرب إلى الحاكم الفرد والتحالف معه والاستيلاء على المؤسسات، بينما الإصلاح يتضمن إنجاح مسلسل الدمقرطة بقيمه المتعارف عليها، قيم الحرية والعدالة والمساواة التامة على قاعدة المواطنة، بغض النظر عن العقيدة واللون والعرق والنسب العائلي، وهذا ما لا يريده رئيس الحكومة وحزبه، لأنه يتعارض مع أهدافهما التيوقراطية. ولهذا نقول لبنكيران وحزبه : ستعانيان كثيرا ليس بسبب الدولة العميقة أو التحكم فقط، بل بسبب طبيعة المشروع الذي تحملونه، والذي ليس بديلا حقيقيا لأنه مشروع تحكمي أسوأ، يتعارض مع تيار التاريخ السائر في اتجاه ترسيخ الحقوق الأساسية للمواطنة