وغيرها من مجالات العلم والابتكار والإبداع ، يصر الجنوب على أن يثير دهشتنا، ليس بتخلفه، بل بإصراره وتفانيه وتفننه في تحصين التخلف، بل يمكن القول بدون مبالغة بأن ما برع فيه جنوب المتوسط وشرقه، منذ قرن من انخراطه في نموذج الدولة الوطنية الحديثة، هو ابتكار أساليب المراوغة من أجل إجهاض أسباب نهضته، وتوفير حظوظ النجاة من التقدم، ويمكن القول إنه قد نجح إلى أبعد حدّ، فلا نهضة ترجى في هذه الربوع قبل عقود أخرى طويلة من الخيبات والصدمات، إلى أن يفيق الناس من سباتهم، ويدركوا أنه لا بدّ مما ليس منه بدّ.
واقعة إنزكان تجعلنا نخوض في أمور كنا في غنى عن الخوض فيها، إذ الأجدى أن ننصرف إلى الملفات الكبرى لواقعنا المتردي في جميع جوانبه، لكن عقول الغوغاء تأبى إلا أن تنزل بنا إلى حضيض انشغالاتها التي لا تتعدى كالمعهود فيها ما ظهر من أجساد النساء، وكأن هؤلاء لا صلة لهم بعصرنا هذا ولا علاقة لهم بمجتمعنا، الذي عرف كل أنواع الألبسة الذكورية والنسائية منذ قرن كامل من التحولات. وكأن لبس التنورة شيء جديد لا قبل لنا به، ولم نره إلا هذه الأيام في إنزكان.
نكتة إنزكان التي انطلقت مع تحرش بعض الخبثاء وانتهت بفتاتين في مخفر الشرطة متهمتين بعد أن لحقتهما كل أنواع الإهانة والإساءة بسبب لباسهما، تظهر مقدار هشاشة نظامنا الأمني، وقصور قوانيننا، وقصر نظر مسؤولينا.
فالفصل الذي تتابع به الفتاتان هو من القانون الجنائي الذي يجرم العري في المكان العام، والمقصود به هنا العري الذي يعني إزالة الملابس وليس لبس نوع منها لا يعجب هذا الطرف أو ذاك، والفتاتان لم تكونا "عاريتين" بل كانتا تلبسان تنورتين من النوع الموجود في كل مناطق المغرب، وفي كل المدن بما فيها بعض المدن الصغرى والمهمشة.
والسؤال المطروح هنا هو: ما هو التأويل الذي أعطاه المسؤولون الأمنيون للنص القانوني الذي اعتقلت بسببه الفتاتان ؟ إذا كان التأويل هو أن التنورتين، اللتين هما نوع من اللباس، تعنيان "العري"، فلماذا لا يطبق هذا القانون في الرباط أو في الدار البيضاء أو في كل المدن الأخرى، بل لماذا لا يطبق في أكادير المحاذية جدا لإنزكان ؟ ما دام السوق الذي وقعت فيه هذه الحادثة المضحكة المبكية يشبه كل الشبه أسواق مدينة الرباط والمدن الأخرى وأحياءها الشعبية ؟
قد يقول الأمنيون إن المشكلة هي أن هناك من احتج على لباس الفتاتين في إنزكان، مما حذا بالسلطة إلى اعتقالهما نزولا عند رغبة المتحرشين الذين تحولوا إلى شرطة أخلاق، وهذا تبرير يضعنا أمام كارثة عظمى لا ندري كيف نواجهها، لأن معنى ذلك أن عقلية الغوغاء والمرضى النفسيين هي التي أصبحت تحدد مضامين النصوص القانونية، وليس المشرع أو أهل الاختصاص، حيث إذا ما اتبعنا منطق السلطة المذكور فسنصطدم بمشكلة أخرى وهي أن عقلية الغوغاء لا تقف عند حدّ أبدا، لأنها لا بدّ أن تواصل شغبها على الناس من أجل فرض منطقها البدوي الغريب عن التمدن والحضارة ، ولن يبقى على السلطة إلا أن تتبع الغوغائيين والمخبولين لكي تنزل عند رغباتهم الغريزية، إلى أن تجد نفسها وقد حولت البلد بكامله إلى سجن كبير.
ما تقوله هذه الواقعة بوضوح هو أن لدينا نظامان للعدالة مختلفان تماما، نظام في الرباط ونظام في إنزكان، وقد تظهر أنظمة أخرى للعدالة المغربية في مناطق أخرى حسب الحالات والأمزجة والعقليات.
لقد كتبتُ منذ عقد ونصف تقريبا، بأن ما يعتمل داخل المجتمع من تحولات في اتجاهات متناقضة، سيفرز الكثير من العاهات بسبب غياب الإرادة في الحسم والاختيار، وسيكون من هذه العاهات عقلية العنف التي ستسعى إلى تدبير الفضاء العام بقانون الغاب، وسيكون الذين ضحوا لسنوات طويلة من أجل التحرر والتغيير، ملزمين بالاستمرار في الكفاح من أجل حماية مكتسباتهم.