يقول "إدغار موران" في كتابة "إلى أين يسير العالم": "يعد عصرنا الحاضر ثورة حقيقية نحو التغيير، فمعطيات اليوم ومنتجاته تختلف كليا عما كانت عليه المجتمعات في العصور الماضية، فلم يبق لعصرنا صلة بماضيه إلا من خلال موروثات يقرؤها بالمكتبات وذكريات يشاهدها بالمتاحف (...) وأمام هذه الحالة المقطوعة من التواصل المعرفي والتكاملي مع الماضي، بدأت تتشكل مجتمعات جديدة تستلهم في حاضرها كل مقوماتها البنيوية والحضارية..." (1).

نراهن في هذه المقالة على صلاحية النص القرآني لكل زمان ومكان، وبالتالي يمكنه أن يستوعب القضايا المستجدة، وأن يتفاعل مع المناهج الفكرية الحديثة، ويستجيب للأنساق الثقافية المعاصرة، فما علينا إلا أن نعيد النظر في كثير من القضايا الفقهية التي يطرحها الخطاب الإسلامي الكلاسيكي، والتي لا تستجيب لمتغيرات الواقع، رغم أن هذه القضايا أصلا ليست من ثوابت الإسلام بل هي من ضمن المتغيرات، وكفانا من النكوص إلى الماضي والاحتماء بأمجاده السعيدة، فهذا لا يعدو أن يكون إلا أوالية شائعة في حالات الفشل.

إن المجتمع الإسلامي المعاصر يحتاج بقوة إلى أن يتنفس فقها حضاريا يحث على السير والنظر في الأرض، ويقوم بواجب التسخير الكوني، ويفتح آفاق السنن الكونية، ويبتكر طرق الترويض العلمي النفعي لها، حتى لا نبقى نراوح مكاننا ونحفظ وندرس مسائل قد اندرست كل معالمها في الحياة المعاصرة، إذ لا يمكن لفقه من هذا النوع أن يستمر إلا بالقوة والعنف والإكراه، لأنه ينفي المتغيرات الثقافية والاجتماعية، ويغيب العقل ويصادره، ولا يمكن أن نرى في واقعنا المعاصر شعبا يخضع لممارسات الإرهاب بنوعيه الفكري والمادي كالشعب الإسلامي الذي غاب تحت وطأة هذا الإرهاب عن ساحة الفعل الإنساني وما زال.

تأتي مسألة تعدد الزوجات على قائمة المسائل التي أولاها القرآن الكريم عناية خاصة، باعتبارها تساهم في حل مشكلة أسرية اجتماعية إنسانية قد تقع وقد لا تقع، هذا من ناحية، من ناحية أخرى فالمسألة ـ بالنظر إليها من الزاوية الفقهية والتفسيرية التراثية ـ لها علاقة بالسياق التاريخي للمجتمعات ولها علاقة بأعراف المجتمع، إذ الملاحظ أن فقه التعدد الذي رسمه الفقهاء قديما كان نتاجا لمجتمع ذكوري ينظر إلى المرأة على أنها أنثى/شهوة/متعة، فأفقدوها مكانتها، ولم يحدث تعويض لها بالاعتراف بأهميتها وفضلها إلا في العصر الحديث، لذلك يرى المفسرون والفقهاء التقليديون أن مسألة التعددية الزوجية مسألة مباحة في دين الإسلام محدودة بأربع نساء، والسبب في الاقتصار على أربع، في نظرهم، يتفق مع مبدأ تحقيق أقصى قدرات وغايات بعض الرجال، وتلبية رغباتهم وتطلعاتهم مع مرور كل شهر، بسبب طروء العادة الشهرية بمقدار أسبوع لكل واحدة منهن. واشترطوا لإباحة التعدد شرطين هما: 1ـ توفير العدل بين الزوجات، 2ـ القدرة على الإنفاق   (2).

وقد أباحت اليهودية أيضا مسألة التعدد، ولم يرد في المسيحية نص يمنعها، لكن الفقهاء والمفسرين الإسلاميين كعادتهم أغفلوا السياق العام الذي وردت فيه، وأغفلوا ربط مسألة تعدد الزوجات بالأرامل ذوات الأيتام، كما هو واضح في الآية الثالثة من سورة النساء، وهو الموضع الوحيد في القرآن الكريم الذي ورد فيه ذكر المسألة على حد تعبير الدكتور محمد شحرور.

أعتقد أن الدخول في مسلسل التحديث والعصرنة لا يمكن أن يبدأ من دون تطوير منظومة فقهية جديدة للتعامل مع قضية المرأة والأسرة، لا تفرض قيودا على حريات الناس، وتتوافق مع مبدأ المساواة بين الجنسين ومبدأ المساواة بين المواطنين، ولذلك نحن في حاجة إلى قراءة معاصرة علمية دقيقة لآيات التعدد، تقطع تماما مع ما يتم تداوله في النسق الفقهي الإسلامي التقليدي، نظرا إلى أنه ليس حتمية وليس ملزما لكل زمان ومكان، لأنه صدر في ظروف تاريخية تختلف عن ظروف عصرنا اختلافا كبيرا.

ولعل الدكتور "محمد شحرور" يأتي على قائمة المفكرين الإسلاميين المعاصرين، والذي حاول تقديم رؤية فقهية معاصرة لمسألة التعدد من خلال كتابه القيم "نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، فقه المرأة"، حيث كتب يقول: "لابد للمتأمل المنصف الذي يريد أن يبحث مسألة التعددية الزوجية في التنزيل الحكيم من أن ينظر في هذه الآيات، وأن يقف مدققا أمام العلاقة السببية التي أوضحها سبحانه بين موضوع تعدد الزوجات واليتامى، ضمن هذا الإطار من السياق والسباق (3).

ويقول في موضع آخر: "أمر الله الناس بنكاح ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع، في حالة واحدة حصرا هي الخوف من ألا يقسطوا في اليتامى فيقول: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا) النساء، الآية 3". وكتب أيضا يقول: "في حالة الخوف من عدم النجاح بالإقساط في اليتامى على الوجه المطلوب، (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى)، جاءت الآية بالحل أي بالزواج من أمهاتهم الأرامل (فانكحوا ما طاب لكم من النساء)، والخطاب هنا موجه إلى المتزوجين من واحدة وعندهم أولاد، إذ لا محل في التعددية لعازب يتزوج أرملة واحدة عندها أولاد أيتام، بدلالة أن الآية بدأت بالاثنتين وانتهت بالأربع (مثنى وثلاث ورباع).

إن الله تعالى لا يسمح بالتعددية سماحا، بل يأمر بها في الآية أمرا، لكنه يشترط لذلك شرطين: الأول أن تكون الزوجة الثانية والثالثة والرابعة أرملة ذات أولاد، والثاني أن يتحقق الخوف من عدم الإقساط إلى اليتامى، وطبيعي أن يلغى الأمر بالتعددية في حالة عدم تحقق الشرطين.

ولأن المقام لا يسمح بذكر المقاربة كلها التي قارب بها الدكتور محمد شحرور قضية التعددية الزوجية نحيل القارئ الكريم إلى كتابه القيم "نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، فقه المرأة"، ونختم المقالة بقوله: "لقد ذهب البعض إلى أن قوله تعالى (فإن خفتم ألا تعدلوا) يعني عدم العدل بين الزوجات في العلاقات الزوجية، وهذا ليس عندنا بشيء، لأن السياق يحكي عن التعددية بمفهومها الاجتماعي الإنساني وليس بمفهومها الجنسي، ويدور حول اليتامى والبر بهم والقسط فيهم، ولأنه تعالى انطلق في أمره بالاكتفاء بواحدة من حيثية واضحة تماما هي قوله (ذلك أدنى ألا تعولوا) أي أن الاكتفاء بالزوجة الواحدة الأولى أقرب إلى أن يجنبكم الوقوع في عجز العول والإعالة.

إن من الخطورة على المجتمع من خلال العلاقات الأسرية أن نعزل مسألة التعددية اليوم عن محورها الأساسي الذي ارتكز عليه الأمر الإلهي بالتعددية، وهو محور اليتامى، ونجعل منها مسألة ترسخ الذكورية، وتطلق يد الرجل بالزواج متى شاء مثنى وثلاث ورباع، في مجتمع غير محارب يتوازن فيه تقريبا عدد الذكور بالإناث. ومن الخطورة الأكبر أن نبتدع، كما يفعل بعض رموز السياسية وفقهاء اليوم، مبررات للرجل تسوغ الزواج بأكثر من واحدة تحت عناوين ركيكة حينا، مضحكة حينا آخر، ظالمة في كل الأحيان.  

قالوا إن عدم الإنجاب يبرر للرجل الزواج من ثانية وثالثة، وكأن العقم والعقر من آفات المرأة التي لا تصيب الرجل، وقالوا إن الشبق الجنسي عند الرجل يبرر له التعددية، وغفلوا عن أن الرجل والمرأة في هذه المسألة سواء، لا بل ذهب البعض إلى أن المرأة أوفر حظا فيه من الرجل، وقالوا إن عجز المرأة عن القيام بدورها كزوجة بسبب المرض الطويل أو العارض الدائم يبرر للرجل الزواج ثانية وثالثة، ونتساءل نحن: أرأيت لو كان الرجل هو العاجز المريض؟ هل يجوز للمرأة أن تتزوج عليه؟ وقالوا.. وقالوا.. لكننا لم نجد ظلا لما قالوه في التنزيل الحكيم (4).  

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1ـ "إلى أين يسير العالم"، إدغار موران، (ص: 21).

2ـ "الفقه الإسلامي وأدلته"، المجلد 7 ص: 167، د. وهبة الزحيلي.

3ـأنظر"نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، فقه المرأة"، د. محمد شحرور، ص: (301) وما بعدها.

4ـ نفس المصدر.