يستلزم قيام الحضارة توفر مجموعة من الشروط والعوامل لا يمكن بغيرها أن تتطور أو حتى ربما وجودها، منها ما هو بيولوجي، وجغرافي، واقتصادي، إلى جانب العوامل الثقافية والاجتماعية، وقد يؤدي فقدان أي عامل من هذه العوامل إلى تدهور وانحطاط الحضارة.
من جهة أخرى وضع العقل الغربي العديد من النظريات لتفسير قيام الحضارات أبرزها نظرية "التحدي والاستجابة" التي وضعها المؤرخ الشهير "أرلوند توينبي" والتي تتركز على التحديات الطبيعية والجغرافية التي وجدها الإنسان أمامه، وكانت استجابته أو رد فعله تجاه تلك التحديات قد خلقت الحضارات. وفسر توينبي قيام الحضارتين السومرية في وادي الرافدين والمصرية في وادي النيل بالجفاف الذي تعرضت له الصحراء الإفريقية الكبرى والصحاري الأسيوية بعد نهاية العصر الجليدي ما أدى إلى إجبار السكان على التحرك نحو سهول وادي الرافدين ووادي النيل وخلق الحضارات فيهما.
أما نظرية البيئة فقد أكدت على دور العامل الجغرافي في بناء الحضارة وشددت على أن الحضارات تقوم في المناطق المعتدلة واستبعدت المناطق المتجمدة والحارة.
وفسرت نظرية "المادية التاريخية" التي تبناها العديد من المفكرين أبرزهم "كارل ماركس" و "إنجلز" قيام الحضارات بالدافع الاقتصادي، وأن نتاج الحضارات البشرية من عادات وتقاليد وفنون ونظم يعود إلى العامل الاقتصادي وأنه وراء التغيرات الاجتماعية والحروب والهجرات وقيام الدول، وأن التناقض هو القوة الدافعة للتاريخ الطبيعي والإنساني بمعنى أن الصراع بين عاملين متناقضين قد أدى لتطور التاريخ الإنساني. وقسمت هذه النظرية التاريخ البشري إلى مراحل متعددة حسب النظام الاقتصادي السائد.
وهناك نظريات أخرى وضعت لتفسير قيام الحضارات منها النظرية العنصرية التي احتكرت قيام الحضارات على العنصر الأبيض.
وبتعميق النظر في هذه النظريات التي وضعها العقل الغربي لتفسير قيام الحضارات نجد أن عامل الوعي الديني والأخلاقي أو البعد الغيبي مغيب تماما، لذلك يمكننا أن نقول إن مما لا جدال فيه أن الحضارة الغربية المعاصرة أفسدت البيئة الكونية، لأن علاقاتها بالكون تأسست على فكرة الصراع والمغالبة دون استصحاب للقيم الأخلاقية فبرزت المشكلات المستجدة في العالم المعاصر من قبيل المشكلة البيئية، واستنفاد الموارد ومصادر الطاقة المخزونة، وتراكم النفايات، والتعاظم المتوالي لأسلحة الدمار الشامل والحروب المهلكة للحرث والنسل. وهذا الفساد هو نتيجة للسلوك الإنساني غير الراشد وغير الواعي بأهمية البعد الغيبي أو الوعي الديني كعامل أساسي في قيام ونهوض الحضارة وديمومتها، فتعاملت الحضارة الغربية المعاصرة مع عالم الشهادة، واقتصر علمها وقوانينها وتمثلاتها للوجود على المفاهيم الوضعية القائمة على الصراع، ولذلك فانفصال الحضارة الغربية عن الوعي الديني وتغييبها له وتحررها من سلطانه أفضى ويفضي بها ولابد إلى انحلال الأخلاق وانحطاطها، وقد استحالت الحياة في الغرب ــ نتيجة لإبعاد الدين ــ إلى عبثية، فتنامت على ساحتها مشكلات لا يرجى منها برء كانهيار الأسرة وانتشار المخدرات والزواج من ذات الجنس (اللواط)، وتفشي ظاهرة الانتحار وغيرها من الأعراض التي سارت تشكو منها المجتمعات الغربية. وفي ذلك يقول "كولن ولسن" في كتابه "سقوط الحضارة": (وكنت أنظر لحضارتنا نظرتي إلى شيء رخيص تافه باعتبار أنها تمثل انحطاط جميع المقاييس العقلية ... انعدام الجانب الروحي في حضارتنا المادية).
وعلى اختلاف وتناقض في التفسيرات التي تؤدي إلى القول بحتمية سقوط الحضارات، إلا أن معظم مذاهب التفسير الوضعي تجمع على القول بهذه الحتمية كما ذهب إلى ذلك كل من "كارل ماركس" و"شبنجلر" و"تونبي" وغيرهم.
وفي عصرنا الحاضر ونحن في مرحلة استحالة تكبيل العقول بالأفكار المعلبة، نتيجة الانفتاح الفضائي وتوسع وسائل الاتصال بالعالم، أصبحت ــ من ثم ــ مجتمعاتنا الإسلامية في حيرة من تعدد الخيارات العقلية، أو انجذابها إلى التيارات الفكرية المتكالبة على كسب أسواقها الجديدة، فظهرت أزمة حقيقية ساهمت بشكل مباشر في تدهور الحضارة الإسلامية، من أجل تلك الحيثيات أضحينا في أمس الحاجة إلى عودة الوعي الديني ليشكل وعيا جمعيا للمجتمع الإسلامي إلى جانب الوعي الحضاري من أجل النهوض والرقي بالحضارة الإسلامية من جديد والمضي بها إلى عالمية إسلامية ثانية.
ولذلك ومن أجل ذلك أعتقد أن الوعي الديني هو الخطوة الأولى واللبنة الأساس والعامل الأول في رقي وقيام الحضارة الإسلامية العالمية الثانية، لا في الطبيعة أو العلاقات والتفسيرات المادية التاريخية كما يتصوره البعض، فقد استخلف الله الإنسان في الأرض لأداء دوره الحضاري فيها، ومن ثم فإن أسباب رقي وتقدم المجتمع الإسلامي تعود بالأساس لوعي الإنسان نفسه ووعيه بماهية هذا الاستخلاف وطبيعته.
وتأسيسا على ما تقدم ذكره يمكننا القول إن المجتمع الإسلامي مرتبط بوثاق عقدي مشدود نحو الماضي برباط الوحي، وإذا قارناه بصورة الانشداد لدى الماديين النفعيين، لوجدناه دعوة للرجعية وتقديسا للتخلف، وقد يصح الأمر لو كان الحال في الديانات الأخرى المحرفة، أما بالنسبة إلى الإسلام فإن الوعي بمنظومة القيم الدينية والعمل بالشريعة الإسلامية، يحقق للمسلم تميزا فرديا وتقدما حضاريا ووعيا فكريا وثقافيا يؤهله إلى أداء دوره الاستخلافي في الأرض، وهي الخطوة الأولى التي لابد من التشديد عليها في سلم الأولويات النهضوية.
ولتقريب مسألة الوعي الديني إلى الأذهان وأهميته في النهوض بالحضارة الإسلامية أقول إن لكل حضارة روح وجسد كالإنسان تماما، فإن جسم الحضارة يتمثل في منجزاتها المادية من عمارات ومصانع وآلات وكل ما ينبئ عن رفاهية العيش ومتاع الحياة الدنيا وزينتها، أما روح الحضارة الإسلامية فهي مجموعة العقائد، والمفاهيم، والتقاليد، والآداب التي تتجسد في سلوك الأفراد والجماعات، وعلاقة بعضهم ببعض، ونظرتهم إلى الدين، والحياة، والفرد، والمجتمع، والكون، والإنسان، ومن هذه الأشياء تتشكل خصائص الحضارة الإسلامية، وتتمثل في العديد من الخصائص منها: أنها حضارة إيمانية انبثقت من العقيدة الإسلامية، وأنها إنسانية النزعة، عالمية في آفاقها وإمداداتها، ولا ترتبط لا بإقليم جغرافي ولا جنس بشري، ولا مرحلة تاريخية بعينها، وأنها حضارة معطاءة أخذت واقتبست من الحضارات الأخرى، وأعطت للآخرين، وكذلك فإنها حضارة متوازنة وازنت بين الجانب الروحي والمادي في اعتدال هو طابع من طوابع الفكر الإسلامي، وأنها حضارة باقية بقاء الحياة على وجه الأرض، وتستمد هذا البقاء من الإسلام الذي قامت على أساس الوعي بمبادئه.
وختاما نؤكد على دور الوعي الديني وأنه العامل الأول والأساس في النهوض بالحضارة الإسلامية، ولا يمكن بحال من الأحوال استرداد مركز الصدارة الذي يجب أن تتبوأه الأمة الإسلامية إلا بنشر الوعي الديني على جميع أصعدتها ومستوياتها.