لو كنت من كتاب السِّيَرْ والتراجم (أو على الأقل، من عشاق أو هواة هذا الصنف من الكتابة الأدبية التوثيقية أو التسجيلية)، لاهتممت بسيرة رئيس حكومتنا، الأستاذ "عبد الإله بنكيران"، بدءا من سنوات الدراسة، مرورا بنشاطه الدعوي والحزبي، وصولا إلى تحمله مسؤولية تدبير شأننا العام عن طريق صناديق الاقتراع. وكنت سأهتم كثيرا بالمراحل الدراسة التي يُطلب فيها من التلميذ أو الطالب أن يحرر موضوعا أو أن ينجز بحثا أو أن يلقي عرضا في مادة من المواد الدراسية. وكان اهتمامي سينصب، أساسا، على معرفة كيفية تعامله مع ما كان يُطلب منه إنجازه وكيف كان يقدمه؛ إذ يبدو لي، والله أعلم، أنه كان يخرج كثيرا عن الموضوع.
ولو كانت سيرة "بنكيران" في صلب اهتمامي، لبذلت الجهد المضني المطلوب من كل باحث جاد للوصول إلى ما يفيد في هذا المجال؛ وبالطبع، فالمصدر الأول، في هذا الجهد، لن يكون سوى المعني بالأمر من خلال ما قد يكون احتفظ به من مواضيع في مادة الإنشاء أو بحوث نَقَّطها الأساتذة أو أجوبة في مادة من المواد التي تتطلب التحرير. وفي كل هذا، ستكون ملاحظات الأستاذة، المثبتة في هوامش أوراق التحرير هي المُوَجِّهة وهي الحاسمة.
وكنت سأبحث، أيضا، في كل التسجيلات التي تم الاحتفاظ بها، سواء تعلق الأمر بالدروس الدينية أو خطب الجمعة التي ألقاها، أو تأطيره لاجتماعات "الجماعة الإسلامية" أو الاجتماعات الحزبية أو مشاركته في النقاشات الموضوعاتية أو العمومية، الخ. وكل هذا كان سيكون مفيدا لمعرفة شخصية "بنكيران" الذي سماه مدير نشرة "أخبار اليوم"(طبعا، ليس لوجه الله !!) بالظاهرة.
لكن، ورغم اقتناعي بأهمية البحث في هذا الموضوع، خصوصا بعد الصورة التي تكونت عندي حول الرجل الثاني في الدولة (بروتوكوليا، على الأقل)، فإن ذلك لا يغريني. ويكفيني ما عرفته عنه خلال هذه المدة القصيرة التي احتل فيها الساحة الإعلامية وبعض الساحات العمومية. وقد يَستحِثُّ هذا المقال، ربما، أحد المهتمين بسيرة وترجمة رئيس الحكومة فيُرضي بذلك كل فضولي. لكن ما هو مؤكد، هو أن البحث في هذا الموضوع سيكشف جوانب مهمة من شخصية رئيس حكومتنا. فالخروج عن الموضوع، في حد ذاته، مؤشر على أشياء كثيرة وذات أهمية، من بينها التسرع وإطلاق الكلام على عواهنه (أو ما يُلَمِّعه البعض باسم التلقائية) وغياب التركيز (مما يعني الشرود الدائم) وعدم تقدير الأمور حق قدرها...الخ.
ومع ذلك، فإن الأمر لا يبدو، عند "بنكيران، بهذه البداهة؛ ذلك أن في الخروج الممنهج عن الموضوع، قد يجثو نوع من "الخبث" (وقد يسميه البعض "ذكاء") السياسي ومنهاج من مناهج التضليل والتغرير. فالخروج عن الموضوع، قد يُقصد منه التهرب مما هو أساسي وتغييبه لفائدة الهامشي أو الجزئي؛ وقد يكون بهدف التضليل والتغليط بواسطة معطيات غير صحيحة، تقحم في الموضوع إقحاما، أو بهدف تحويل الأنظار باختلاق عداوة أو البحث عن مشجب تُعلق عليه أسباب الفشل، أو غير ذلك من الدواعي والغايات. ومن يتتبع خطابات الأستاذ "بنكيران"، سوف يجد فيها كل هذا أو على الأقل الشيء الكثير منه.
ما دفعني، في الواقع، إلى إثارة هذا الموضوع، هو إصرار رئيس الحكومة على إقحام الملك، بمناسبة أو بدونها، في جل خطبه؛ وبالأخص، حين يريد بعث رسائل ما إلى المعارضة. وسأكتفي، هنا، بآخر خطاب، في حملة انتخابية سابقة لأوانها، ألقاه السيد"عبد الإله بنكيران"، رئيس الحكومة والأمين العام لحزب العدالة والتنمية، في تجمع حزبي بساحة عمومية بمدينة الرشيدية (مع الإشارة إلى مهرجان مماثل سبقه ببضعة أيام فقط بمدينة الدشيرة الجهادية، ومهرجانات أخرى موعودة بالرباط وغيرها من المدن، "باش يَتَّقْلَوا الخصوم"، حسب تعبيره).
وبحكم المهنة (مهنة التدريس)، فقد تكونت عندي حساسية ضد الخروج عن الموضوع الذي أعتبره آفة (آفة منهجية ومعرفية وتربوية...). واعتبارا لكون خروج رئيس الحكومة عن الموضوع، ليس كشرود التلميذ أو الطالب (فليس له لا نفس الأسباب ولا نفس النتائج)، فقد قررت أن أخوض فيه اعتمادا على ما ورد في الخطاب المذكور في شأن العلاقة مع الملك وفي شأن علاقة "بنكيران" بالثروة.
يخرج "بنكيران" عن الموضوع كلما طالبه أحد بممارسة صلاحياته الدستورية؛ ويتم هذا الخروج عن الموضوع بإقحام الملك في النقاش وتحميل الموضوع ما لا يحتمل. فهو يرى في كل دعوة إلى ممارسة الصلاحيات الواسعة التي خولها الدستور الجديد لرئيس الحكومة سببا أو مدعاة للخصومة مع الملك وسوء العلاقة بينهما ("بغاوني ندخل مع جلالة الملك فْشَدّْ لي نقطع ليكْ"، يقول "بنكيران") ؛ والحال أن هذا الكلام فارغ ولا يليق برئيس الحكومة المستأمَن، دستوريا، على تدبير الشأن العام ببلادنا؛ ذلك أن كلامه لا مُسوِّغ له ولا سند لا في الدستور ولا في الواقع المعاش. كل ما هناك، أن رئيس الحكومة يعمل، بهذا الادعاء، على إخفاء شيئين اثنين، على الأقل؛ وهما من الأهمية بمكان: فمن جهة، يداري بذلك عن تنكره للدستور وللنفحة الديمقراطية الموجودة في روحه ونصه؛ ومن جهة أخرى، يخفي ضعفه وفشله في مواجهة المشاكل الحقيقية؛ لذلك، فهو يختبئ وراء الملك، وكأنه يريد أن يفهم الجميع بأن القرارات الجائرة التي يتخذها في حق جيوب الفقراء والمعوزين وأصحاب الدخل المحدود، هي قرارات الملك وليست قرارات الحكومة.
ولا يكِلُّ "بنكيران" من أن يذكرنا، دائما، ببديهية (دستورية وتاريخية)، لا يناقشها ولا يُغيِّبها أحد؛ وهي أن الملك هو رئيس الدولة، وكأن من يطالب رئيس الحكومة بممارسة صلاحياته الدستورية، لا يعرف بأن الملك هو رئيس الدولة؛ أو كأن الأمر غير محسوم ويحتاج إلى من يذكر به؛ وقد أَوْكل "بنكيران" لنفسه هذه المهمة، خارج اختصاصاته الدستورية وخارج الأعراف والتقاليد السياسية المغربية.
والمثير في الأمر، هو أنه يتجاوز، أحيانا، كل الحدود (بعفوية؟ !...) بحيث يسمح لنفسه بإقحام الملك في أمور تمس بوضعه الاعتباري، كأن ينسى، مثلا، واجب التحفظ أو أن لا يستحضر بأن الملك هو فوق صراعات الفرقاء السياسيين (أغلبية ومعارضة)، أي أنه حكم وليس طرفا، أو أن يتناسى أن التدبير يعود للحكومة بحكم الدستور وبأن مهام الملك محددة دستوريا وليس مطلوبا من رئيس الحكومة لا أن يوسعها ولا أن يقلص منها، وأن، وأن...
ولذلك، فأنا، شخصيا، لا زلت عند قولي الذي ما فتئت أردده في كل مقال له علاقة برئيس الحكومة، بأن "بنكيران" له كل الصفات، إلا صفة رجل الدولة. ويتأكد عندي هذا كلما تقدمت سنوات هذه الحكومة، بحيث لا يبدو بأن "بنكيران" تُنضجه التجربة الحكومية. فهو متقوقع في قمقمه الحزبي، لا يغادره إلا ليعود إليه للتو. ولهذا، تراه يخلط بين المقامات ويخرج عن الموضوع بتحريف النقاش عن مواضعه خدمة لأغراض حزبية ضيقة؛ مما يجعله في حملة انتخابية دائمة، بغض النظر عن السياق والظروف المحيطة (فحتى حضوره في حفل - نظم يوم الخميس 26 مارس 2015 من طرف مجلة "نساء من المغرب" بشراكة مع وزارة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية - تكريما للمرأة في شخص ثلاث جمعيات نسائية حظيت بجوائز تقديرية، حَوَّله، بدون خجل ولا وجل، إلى حملة انتخابية سابقة لأوانها ومهاجمة المعارضة).
ويُعتبر حديثه عن الثروة وعدم حرصه على امتلاكها، في تجمعه الجماهيري بمدينة الرشيدة ((أي أمام مواطني المغرب العميق الذي يعيش الهشاشة بكل ما تعنيه الكلمة من تهميش وفقر وحاجة...الخ)، في حد ذاته، خروجا عن الموضوع. فهو لم يأت إليهم لا بمشاريع اقتصادية ولا اجتماعية ولا ثقافية ولا رياضية، ولا أي شيء...فقد أشبعهم فقط كلاما "لا يودي ولا يجيب"، بلغة إخواننا المصريين، ليختم خطابه، بعد أن وطأ للأمر على طريقة منشطي ساحة جامع الفنا (يعني "الحلايقية") وبأسلوب المصادرة على المطلوب، بسؤال الحاضرين عما إن كانوا راضين عن رئيس بلدية الرشيدية المنتمي لحزب العدالة والتنمية ويرغبون في أن يُرشِّحه لهم، من جديد، في الانتخابات المقبلة (؟ !). وبالطبع، فالجواب يوجد في صيغة السؤال؛ لذلك، تلقى الجواب الذي يريد وبعث الرسالة التي من أجلها انتقل إلى هناك (والتي لست سوى طلب التصويت في الانتخابات المقبلة لصالح العدالة والتنمية، ليس فقط في الرشيدية؛ بل وأيضا في أرفود وغيرها من الجماعات، كما كان ذلك واضحا تمام الوضوح من كلامه): أليست هذه حملة انتخابية سابقة لأوانها؟ وممن؟ من رئيس الحكومة ("ياحسراه" !)، المفترض فيه أن يحترم القانون ويحرص على تطبيقه.
وقبل هذه الرسالة الواضحة، كان لابد من شيء من اللغو، يستغفل به الحاضرين، فانطلق يتحدث عن الثروة وعن عدم اكتراثه بجمعها، سواء من قبل أو الآن وقد أصبح رئيسا الحكومة أو بعد أن يغادر المسؤولية الحكومية (وتجدر الإشارة إلى أنه ليست هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها عن الثروة وعلاقته بها).
وحتى لا يبقى اللغو لغوا، فلا بد من حشوه ببعض الكلام "الغليظ"؛ وهكذا، أخبرنا السيد "بنكيران" بأنه 40 سنة وهو في "التمارة" (مسكين ! "الله يسمح لينا من شقاه !!")، دافع خلالها عن ديننا (جازاه الله عنا وعن الإسلام خيرا !فلولاه لكان الإسلام قد أصبح غريبا في بلاد المغرب؛ ولولاه لكان المغاربة مجموعة من المارقين والزنادقة وعبدة الأصنام أو الشيطان... فـ"الله يعطينا وجهك السي بنكيران !!")؛ وهذا ما جعله لا يفكر في جمع الثروة ولا يعمل على ذلك. وكيف لا ! وقد نذر نفسه "للموت في سبيل الله"، كما قال يوم 7 مارس 2015 في الدشيرة الجهادية بضواحي أكادير.
وبعد كلام كثير، حاول من خلاله تبرير قراراته المجحفة في حق الأغلبية العظمى من الشعب المغربي، وصل إلى بيت القصيد، ألا وهو التغطية على هذه القرارات بما اعتبره إنجازات سيخلد بها ذكره بعد ترك المسؤولية الحكومية؛ ونقتصر، هنا، على المنحة التي ستخصص للأرامل بقيمة 350 درهما عن كل طفل على أن لا يتجاوز عدد الأطفال ثلاثة والمبلغ المالي 1050 درهم (أي 21 ألف ريال).
ودون أن نقلل من قيمة هذا القرار (مهما كان عدد المستفيدات منه محدودا، لكونه لا يعني إلا الأرامل اللائي ليس لهن تقاعد أو أن أطفالهن لا يستفيدون من برنامج "تيسير")، فإن مفعوله قد ألغي عمليا، في اعتقادي، قبل أن يدخل حيز التنفيذ؛ وذلك بسبب الزيادات المتتالية في الأسعار بفعل رفع الدعم عن المواد الأساسية، ومنها "الكازوال"(البترول) المستعمل في نقل البضائع والمسافرين؛ مما يعني توسيع دائرة الفقر وتعميق درجة الهشاشة في مجتمعنا.
لكن المضحك والمبكي، في نفس الوقت، في كلام "بنكيران" هو أن يقدم نفسه على أنه هو وحده من يعرف ما تمثله 21 ألف ريال بالنسبة للنساء القاطنات بالأحياء الهامشية والدواوير؛ ويستعمل، في ذلك، خطابا تضليليا فَجّا، حين يقول: "هادوك لي في الرباط للي كيشدوا 3 ديال الميون، منين غادي يعرفوا هاذ الشي؟"؛ وكأنه مقيم بحي شعبي هامشي بالرشيدية وراتبه أقل من راتب البرلماني. فهل نسي أن ما يتقاضاه شهريا كرئيس للحكومة (وما سيتقاضاه من ميزانية الدولة بعد خروجه من الحكومة)، يعادل ثروة كبيرة بالنسبة للكثير من الذين كانوا يستمعون إليه في الرشيدية؟ ويمكن أن أقول بأن راتبه يشكل ثروة حتى بالنسبة لي، شخصيا، رغم أني أنتمي إلى ما يسمى بالطبقة الوسطى. وكيف لا، وراتبه يتجاوز رواتب رؤساء حكومات بلدان شمال أفريقيا وراتب رئيس الحكومة الإسبانية، وراتب الرئيس الصيني ...الخ؟ !
وبعيدا عن كل هذا، فهل صحيح أن "بنكيران" لا يملك ثروة؟ لقد صرح بأنه لا يملك سوى ورشة لصنع "جافيل"( "مول جابيل" ! هذا هو اللقب الجديد الذي أصبح له في بعض المواقع)، تكلفه خسائر سنوية، تتضارب الأرقام التي يقدمها في هذا الشأن من مناسبة إلى أخرى. لكن الصحافة كشفت أخيرا امتلاكه لمطبعة، سمح لنفسه بأن يتلقى عليها، خارج القانون، الدعم من مالية الدولة (21 مليون سنتيم: كم فيها من 21 ألف ريال التي لا يعرف قيمتها إلا هو؟ !). بالإضافة إلى ذلك، يعرف الجميع أنه صاحب مدارس حرة (وهي مشاريع مدرة للربح ومنتجة للثروة)؛ غير أنه لا يذكرها كمصدر لجمع المال، وكأنه يستقبل فيها التلاميذ بالمجان ! وقد يكون هناك أشياء أخرى، الله أعلم بها. فلماذا الإصرار على أنه لا يملك ثروة؟ ربما، يقصد بأنه ليس من الأثرياء الكبار؛ فلم يسجل بعد اسمه في موسوعة "غينيس"؛ لكنه صاحب ثروة على كل حال؛ خاصة وأن مسألة الثروة تبقى شيئا نسبيا؛ إذ تبتدئ من الاكتفاء الذاتي وقد لا تقف عند مال قارون.
وختاما، لا أجد- أمام هذا الزيف وهذا البهتان الذي أصبح منهاجا في السياسة التي لا تعني عند البعض سوى قلب الحقائق- إلا التعبير عن القلق بالنسبة للمستقبل. فأوضاعنا الحقوقية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية... تتدهور بشكل مخيف ورئيس حكومتنا فرح فخور بهذه الأوضاع.