مساءً بينما كنت أعدُّ الشاي ،انتابني شعور غريب هبت عليّ نسمة هواء حزينة جرفها التيار إليّ ليثير اتباهي لأشياء نادرا ما نقف لوهلة للتفكير فيها. فمرض أشخاص أعزاء أو موت الأحباب والأصحاب شئ لا يُنسى مهما حاولنا، ذكّرني بجدّتي رحمها الله التي وافتها المنية منذ ثلاث سنوات تقريبا ، كنت أحبها كثيرا وكانت تحبني هي كذالك ولا تكف عن الدعاء لي كلّ ما رأتني، كم إشتقت لها تذكرتها وتذكرت أيامها عندما كانت بصحتها وبكامل قوتها،لقد كانت سيدة بألف رجل بشهادة كل من يعرفها في "تنجداد". ما أريد قوله أني تذكرت الماضي القريب، ماضي التسعينات عندما كنت لا أزال في المدرسة وفي كل عطلة صيف كنت لا أفوت فرصة قضاء عطلتي هناك في "ايت عاصم" بتنجداد الحبيبة، التي كنت أحبها آن ذاك، جلست في المطبخ لأُعدّ الشاي فإذا بي أتذكر تلك الأيام، أصدقاء تلك الفترة ودروب "أيت عاصم"،"النيمرو"، "الخربات"،"السات" و"كردميت".... لا يوجد مكان لم نترك فيه آثار أقدامنا التي شهدت على طفولتنا البريئة والمشاغبة أيضا. أحنّ إلى الماضي، ماضي جدّتي التي أفتقدها إلى الآن.
"تنجداد" للأسف لم تعد كما كانتن أعني ربما نحن لم نعد كما كنّا، كبرنا وكبرت مشاكلنا معنا، وتلاشت براءتنا مع الزمن.كانت لهفتي شديدة كلما أردت الذهاب إليها ،كنت أفرح ولا أدري ما سبب فرحي كان فرحا طفوليا لم أعد أعرف معناه اليوم لقد تغير كل شئ أو بالأحرى نحن من تغيّر.لقد اختفت تلك اللهفة فتواجدي هناك لم يعد بتلك اللهفة كما في الصغر، وجودي مثل عدمه لا يهم، نحن جميعا نحس بنسمة الهواء تدغدغنا لكننا لا نستطيع رؤيتها, هكذا هو الموت يطوف بنا وينتظر لحظة غفلة منّا ليأخذنا معه إلى عالمه لنموت, فهل هناك من سيتذكرنا بعد موتنا كما نتذكّر نحن من فارقنا؟ الموت قادم لا محالة، فلما نضيع وقتنا في الكره والحسد والبغض والعنصرية؟ لما لا نحب بعضنا البعض ونتسامح فيما بيننا؟ لما نعذب أنفسنا في إنتظار من لا ينتظرنا؟ لما لا نعطي لأنفسنا فرصة لمعرفة حقيقة كل شئ من حولنا؟ لما نحب الوهم أكثر من الحقيقة؟ لما نستمر في كبت عواطفنا تُجاه من نحب؟ لما لا نستطيع الإعتراف ونفضّل الكتمان؟ ماذا سيحدث لو واجهنا أنفسنا بالحقيقة؟ ربما كنا سنتغيّرُ للأفضل ونحسُّ ببعضنا البعض ونعطف على الآخرين، بل سنعطف على أنفسنا أكثر فالإحساس بألم الآخر يجعل منك إنسانا بمعنى الكلمة.الإنسانية تاج الإنسان وكنزه، متى تجرّد منها أضحى خالي الوفاض من كل المشاعر الانسانية الجميلة. هذه سطور أحببت أن أشاركها معكم علّي أجد من يتمعّن في ما أقصده وأملي أن تهُبّ عليكم نفس النسمة التي هبّت عليّ لتتذكّروا ماضيكم بأفراحه وأتراحه ،وأنا على يقين أنّ لكم ذكريات جميلة وحزينة تحتفظون بها في ركن ما في ذاكرتكم فأطلقوا لها العنان لتنشط من جديد، وأحبوا وتسامحوا مع بعضكم البعض فالوقت ضيق والحياة مهما بدت لنا طويلة إلا أنها أقصر مما تنصور.
أحيانا نعتقد أن كبار السن لا يصلحون لشئ, وانهم هرموا ولم يعد لهم أية أهمية في أي أسرة,وأنهم لا يفعلون شيئا سوى الثرثرة والكلام الفارغ ولا نحاول حتى الجلوس معهم ولو نصف ساعة كاملة. بالنسبة لي جدتي رحمها الله كانت أكثر من مجرد مسنة هرمة وثرثارة, كنت اجد في ثرثرتها المتعة والكثير من المواضيع المفيدة لي والمسلية. كنت أحب الجلوس معها في حديقتنا الصغيرة في منزلنا, وكنت أفرح حين عودتي إلى المنزل لأني أعلم أنها تنتظرني هناك. وجود شخص مسن وذو خبرة كبيرة في الحياة يفرحني لأنه يضفي على المنزل دفئا وجمالية من نوع خاص. كنت عندما أرغب في السفر عبر الزمن إلى ماضي جدتي عندما كانت فيه لا تزال في ريعان شبابها في مراهقتها وفي جميع مراحل حياتها, كانت هي من تجعلني أسافر عبر حكاياتها الجميلة إلى عوالم كانت تبدو لي غامضة, كانت تحكي لي وفي عينيها بريق يتغير كلما تحدثت عن أشياء كانت تخصّها, أحيانا تجدها تحن وتشتاق لذاك الزمن وأحيانا تشعرني بندمها على أشياء لم تكن راضية عنها وتقول وهي منحنية الراس" أداغ إسامح ربي" أي سامحنا الله.رحمك الله ياجدتي يا ملهمتي في كل شئ يا من كنت تملئين أرجاء المنزل بصراخك الدي كان له طعم مميّز, رحلت وبقيت ذكرياتك معي وفي كل ركن أتذكرك وأسمع صوتك يناديني بإسمي عندما تحتاجين شيئا ما.رحم الله موتانا وموتى المسلمين.
|