يؤسفني أن أجد نفسي، مرة أخرى، مضطرا لمواجهة وجه آخر من الوجوه الاتحادية البارزة، ليس دفاعا عن الأشخاص ( وإن كنت لا أرى مانعا من ذلك ولا حرجا فيه، إذا حصلت لي القناعة بصواب مواقفهم) كما قد يعتقد البعض وإنما دفاعا عن الشرعية وعن المؤسسات الحزبية التي ساهمنا جميعا، كل من موقعه، في تكوينها، بواسطة تمرين ديمقراطي غير مسبوق، رغم ما يكون قد اعترى هذا التمرين من نقائص، ليست أبدا بالمستوى السيئ الذي يصوره البعض للتنقيص من قيمة النجاح الذي حققه المؤتمر الوطني التاسع لحزبنا.
ويؤلمني هذا الوضع لكون الكتابة السياسية ارتبطت عندي بمواجهة خصوم الاتحاد وأعداء مشروعه المجتمعي القائم على الديمقراطية والحداثة والعدالة الاجتماعية، بينما أجد نفسي الآن مجبرا على الخوض في المشاكل الداخلية للحزب (مما يحرمني من النشر في جريدتنا الغراء “الاتحاد اشتراكي” التي لا أبغي عنها بديلا) والتي، للأسف، يريد لها البعض، ومن داخله، لحسابات ضيقة ولاعتبارات ذاتية، أن تستفحل. وهذا ما جعلني في مواجهة إخوان، أكن لهم كل الاحترام والتقدير باعتبار تاريخهم النضالي الحافل وباعتبار المسؤوليات التنظيمية والتمثيلية التي تحملوها باسم الحزب (وإن كان البعض قد جعل من هذه المهام ريعا ماديا ومعنويا، لا يُسلِّم فيه إلا على مضض وفي خضم صراع طاحن، يهدد سلامة الجسم الاتحادي).
ويؤلمني، أيضا، أن أنشغل، بسبب ما سبق، عن ممارسة حقي كمواطن في نقد وانتقاد الممارسات الحكومية التي ترمي إلى الإجهاز على المكتسبات السياسية والاجتماعية والحقوقية وغيرها، التي حققها الشعب المغربي (وفي طليعته وطليعة تنظيماته السياسية الاتحاد الوطني-الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) بفضل التضحيات الجسام لرجال ونساء “صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا”. ويؤلمني أكثر أن لا أشارك (بالقلم، أقصد، كما كنت أفعل من قبل) في التصدي لنفاق الحزب الأغلبي الذي يدعي الدفاع عن الفقراء والمعوزين، في استغلال مكشوف للدين الإسلامي الحنيف، في حين تُوجه حكومته الضربات الموجعة تلو الأخرى لقدرتهم الشرائية المتدنية جدا، إن لم نقل المنعدمة أصلا، بينما تهادن المفسدين وتحابي الأغنياء.
وإذا كانت المناسبة شرط، كما يقول الفقهاء، فإن الخرجة الإعلامية الأخيرة لمدير صحافة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بواسطة حوار أجرته معه جريدة “المساء” المعروفة بحقدها الدفين وبعدائها المستحكم ضد الاتحاد ورموزه، قد استفزتني بقوة، كما استفزت، ولا شك، كل مناضل يألم لما يقوم به بعض أهل الدار من عمل “تخريبي” يرمي إلى تقويض أركان البيت الاتحادي لإسقاطه على رأس كل من فيه، عملا بمقولة “علي وعلى أعدائي”؛ وذلك بعد أن استشعر أصحاب هذا العمل المشين قرب نهاية “مجدهم” السياسي لتخلفهم عن الركب (أو بالأحرى لكون الركب قد تجاوزهم)؛ مما يعني نهاية الريع (المادي والمعنوي) الذي ظلوا يتمتعون به لسنوات باسم النضال، ناسين أن الحزب الذي يتنكرون لفضله اليوم ويعملون على إضعافه، بمبررات واهية يكذبها الواقع ويدحضها منطق الأشياء، هو من صنع مجدهم (المادي والمعنوي) وأعلى شأنهم، وليس العكس.
لقد أطلق الأخ “عبد الهادي خيرات”، في الحوار المشار إليه أعلاه، العنان للسانه ليصب جام غضبه على القيادة الحالية للحزب وليصور للقارئ وضعية مخالفة للواقع تماما، تقدم الاتحاد وكأنه في حالة احتضار. لن أخوض، الآن، في تفاصيل هذا الحوار. لكني أعده بالعودة إليه ببعض التفصيل في الوقت المناسب إن شاء الله تعالى. وسأقتصر، هنا والآن، عن علاقته بالمؤسسة الإعلامية للحزب.
لقد عرفنا، من خلال حواره، الظروف التي تكلف فيها بإدارة جريدة “الاتحاد الاشتراكي”(ليضيف إليها، فيما بعد، جريدة “ليبيرسيون”)؛ وعرفنا، أيضا، المجهودات التي بذلها، بتعاون، ولا شك، مع العاملين بها (أو على الأقل، البعض منهم)، للخروج من الوضعية الكارثية التي كانت عليها.
لكن “خيرات” لم يقل لنا كيف أصبح مالكا للجريدة؛ ولم يقل لنا كيف يمكن أن تكون الجريدة في ملكه وفي نفس الوقت لسان حال الحزب. لقد قال بالحرف: “من الناحية القانونية الجريدة في ملكي أنا. لكن من الناحية السياسية هي ناطقة باسم الحزب”. هل يقبل العقل هذا الكلام؟ وكيف يمكن أن يُستصاغ الوضع الحالي الذي انتقل فيه “خيرات” من مجرد مدير إداري للجريدة، كلفه المكتب السياسي (الذي كان عضوا فيه) بهذه المهمة، إلى مالك للجريدة؟… يهمني، كمناضل اتحادي، أن أعرف ملابسات هذا الوضع غير الطبيعي.
ثم إن “خيرات”، الذي أسهب في وصف الوضعية التي وجد عليها الجريدة والتي نعتها بالكارثية، لم يقل لنا شيئا عن المقابل المادي الذي كان يصرفه لنفسه (أو يُصرف له) نظير مجهوده الإداري. الإشارة الوحيدة كانت إلى الحجز الذي تم على راتبه؛ ورغم أنه لم يقل لنا أي راتب من الرواتب يقصد، فيمكن أن يُفهم بأن الأمر يتعلق بالراتب الذي يأخذه من الجريدة.
وبغض النظر عن الامتيازات المعنوية التي يخولها له وضعه كمدير لإعلام الاتحاد الاشتراكي (وما أكثرها !)، فإن المقابل المادي، أيضا، يبدو مغريا جدا؛ مما يفسر”ردة فعله” القوية على بيان المكتب السياسي ليوم 3 نونبر 2014 الذي أشار إلى المؤسسات الإعلامية الحزبية باعتبارها تدخل في ممتلكات الحزب؛ الشيء الذي اعتبره “خيرات”، ولا شك، تهديدا (بل نهاية) للامتيازات المادية والمعنوية (الريع الحزبي) التي يتمتع بها بفضل وجوده على رأس إدارة الإعلام الحزبي. وهنا مربط الفرس !!!… كما يقال.
يبدو أن”إدريس لشكر”، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، قد وضع يده في عش الدبابير حين أراد استرجاع ممتلكات الحزب وحمايتها من السطو المقنع أو المكشوف؛ وذلك بالعمل على تسجيلها وتحفيظها باسم الحزب، تنفيذا لمقررات المؤتمر الوطني وقرارات اللجنة الإدارية، وتطبيقا لقانون الأحزاب.
ويُبرز مثال خيرات”، بوضوح، الدور الخطير الذي يلعبه الريع، بمفهومه الاقتصادي والسياسي، في الصراع الدائر في صفوف الاتحاد الاشتراكي. وهو صراع مفتعل، يحركه ويغذيه بعض المتنفذين والمستفيدين من حالة الفوضى والتسيب التي كان يعرفها الحزب على هذا المستوى (والمستويات الأخرى، طبعا). فكم من عقار هو للحزب، لكنه مسجل في أسماء أشخاص ذاتيين. وعودته للمالك الحقيقي تتوقف على أريحية وأمانة هؤلاء أو ورثتهم؛ وإلا ضاع العقار من الاتحاد.
وهنا، ندرك السبب الوجيه لرفض “إدريس لشكر” لاقتراح “خيرات” الذي قدمه لمبعوثي المكتب السياسي، الأخوين “عبد الكبير طبيح” و”محمد محب”. فما هو اقتراح “خيرات”، يا ترى؟ وما دواعي رفضه؟
لقد اقترح “عبد الهادي خيرات”، حسب ما جاء على لسانه في الحوار إياه، إحداث مجلس إداري للجريدة؛ مما يعني أن هذه الأخيرة ستجل باسم أعضاء هذا المجلس الذي قد يقل أو يكثر عددهم. وبهذا، حسب رأيي المتواضع، سيزداد الأمر تعقيدا؛ إذ، لو تم العمل بهذا المقترح، ستجد القيادة الحالية والمقبلة للحزب نفسها أمام ليس مالك واحد للجريدة، كما هو الحال الآن؛ بل أمام مُلَّاك، قد يكونون كثر. وقد تجد القيادة المقبلة نفسها، بعد عمر طويل، إن شاء الله، للأعضاء المقترحين للمجلس الإداري، أمام الورثة الذين لا علاقة لهم لا بالسياسة ولا بالحزب ولا يفهمون إلا أنهم ورثوا عن أبائهم المؤسسة الإعلامية للحزب ولهم حق الاستفادة من نصيبهم فيها والتصرف فيه.
فهل هذا ما يريده “خيرات”؟ أم أن بريق الريع يمنع عنه رؤية الحقيقة وتمييز الحق من الباطل…؟ وهل الحل هو قطع شعرة معاوية مع “لشكر” و تأسيس بديل سياسي واسع يعيد للعمل السياسي نبله، كما يدعي؟ فأي نبل هذا الذي تفوح منه رائحة الريع المادي قبل المعنوي الذي يُسيل اللعاب، هو أيضا؟ وأي بديل هذا الذي يتأسس على الرغبات الذاتية وعلى الحقد وعلى الغرور وعلى العمى الذي تُسببه المصلحة الشخصية…؟
إنني لا أفهم سر هذا التركيز المرضي على شخص “إدريس لشكر”، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي؛ إذ كل من قرر أن يغادر الاتحاد أو أن يذكي الصراع في صفوفه لعرقلة ديناميته بذرائع لا تنطلي إلا على من في قلبه مرض، يحمل مسؤولية ذلك إلى “لشكر” . من دون شك أن للتحليل النفسي ما يقوله في هذا الموضوع. لكني أود أن أنبه الأخ “خيرات” وأمثاله إلى أمرين: الأمر الأول يتعلق بالمكتب السياسي الحالي الذي به رجال ونساء، لهم باع طويل في النضال السياسي والنقابي والجمعوي؛ ولهم استقلالية في التفكير والرأي، لا يتسرب إليها الشك أبدا… فهؤلاء هم من يشكلون، إلى جانب الكاتب الأول وثلة من الأطر الاتحادية الشابة، العمود الفقري للقيادة الاتحادية التي تُصرِّف مقررات المؤتمر وتنفذ قرارات اللجنة الإدارية. وكل محاولة لترويج عكس ذلك، ليس لها من تسمية سوى تبخيس الناس أشياءهم.
أما الأمر الثاني، وهو شيء لا يجهله “خيرات”، فإن كل من سبقوه إلى مغادرة سفينة الاتحاد، غادروها وهم يتملكهم الغرور بكونهم البديل عن الاتحاد الاشتراكي. لكن الاتحاد الاشتراكي أثبت أنه أكبر من كل الذوات المنتفخة والأنانيات البغيضة. وأنصحه، بالتالي، أن يتأمل الوضع السياسي الحالي لصديقه ابن الشاوية الذي كان يرفل في عز سياسي (برصيد رمزي هائل) قل نظيره، قبل أن يقدم على خطوته الغير محسوبة العواقب في المؤتمر الوطني السادس للاتحاد، ويؤسس حزبا جديدا لا يمثل، الآن، شيئا يذكر في الساحة السياسية، بعدما اعتقد مؤسسه أنه سيلقي، بواسطته، بالاتحاد الاشتراكي إلى الصفوف الخلفية في سلم ترتيب الأحزاب، ليتصدر هو المشهد.
لذلك، قلت، في مقال سابق، حين بدأ الحديث ( داخل ما سمي بتيار “الديمقراطية والانفتاح”) عن التفكير في بديل سياسي، بأن “من يغادر سفينة الاتحاد لن يكون أبدا أفضل من سابقيه”. من المؤكد أن “بديل” “خيرات” (أو غيره) سيؤثر سلبا، بشكل من الأشكال، على الاتحاد الاشتراكي. ولهذا السبب، قلت دائما بأن الأحزاب التي خرجت من رحم الاتحاد، لم تنجح إلا في شيء واحد؛ هو إضعاف الاتحاد، مقدمة، بذلك، عن وعي أو بدونه، خدمة لا تقدر بثمن لخصوم الاتحاد الاشتراكي (وما أكثرهم !).
وفي الختام، لا يسعني إلا أن أوجه للأخ “عبد الهادي خيرات” نداء بنية صادقة وبقلب خالص، داعيا إياه إلى اتقاء الله في حزبه والعودة إلى رشده وترك الوهم جانبا، قبل فوات الأوان، خصوصا وأن بيته قد أصبح، في نظر العديد من الاتحاديين (وحتى غير الاتحاديين)، من زجاج؛ فلا يستقيم إذن، أبدا، أن يقذف الناس بالحجارة.