لقد كانت الصحافة ولاتزال مهنة المتاعب بامتياز، نظرا لما يعترض فرسانها الأحرار من مطبات ومخاطر قد تهدد حياتهم في الكثير من الأحيــان.. ثم لأن الصحافة هي التعبير عن الوجه الآخر للديمقرطية، فلا ديمقراطية بدون صحافة حرة ونزيهة، لأنها هي مرآة الشعب في مراقبة السلطة ونقدهـا، ومن أجل ذلك سميت بالسلطة الرابعـة .
ولكونها سعت دائما إلى خلق نوع من الرقابة على سلوكات الحكام ورجال السلطة ومن يدور في فلك المخزن، جعلها في الكثير من الأحيان تعاني في ظل الأنظمة والحكومات الاستبدادية، التي تجد من المهم لها عدم التعرض لقراراتها الشاذة، أو سياساتها المنحرفة، فتلجأ إلى تكميم الأفواه الحرة وإغماض الأعين المترصدة الساهرة على حماية الشعب ومقدراته الحيوية.. فتعاقب الصادحين بالحق والمنتقدين، تارة بالقوانين العادية التي يتم تكييفها لتلائم حالة الوقيعة بأصحاب الرأي الحر، وتارة بقوانين استثنائية تفصلها تفصيلا على مقاس الحاكم، لتكون سوطه المسلط على كل من سولت له نفسه الاعتراض أو النقد لسياساته الاستبداديـة.
يأتي هذا الحديث عن الصحافة والحاكم ، في سياق التأفف والانزعاج الكبير الذي أبداه السيد رئيس الحكومة في بلادنا، من كتابات بعض صحفيينا، على صفحات بعض الجرائد والمواقع الحرة، كتابات لم تتعرض إلى السيد بنكيران، لا في عرضه ولا في دينه ولا في ماله، ولا في أمر يهمه في شخصه، بل تناول أصحابها ما يرونه بأم الأعين على أرض الواقع، واقع لا يمكن إخفاؤه، أو التعتيم عليه، لأنه باد للجميع، ومنتصب كانتصاب الأزمة في أعين الناس البسطاء..إذ لا يمكن إخفاء الشمس بالغربال كما يقول المثل ..
لقد ذهب السيد رئيس الحكومة إلى التعريض بأصحاب هذه الكتابات، بل حتى بأصحاب المنابر الإعلامية ـ الورقية والالكترونية ـ التي تستضيفهم.. حيث كال لهم وابلا من السباب والتهم، التي إن حدث ووقعت في بلاد تحترم نفسها لحُرّكَـتْ على إثرها مساطر التحقيق والمتابعة القضائية، لأنها تمسّ هؤلاء في وطنيتهم ، وتشكك في ولائهم لملك البلاد وللوطن، وفي غيرتهم على مصالح الشعب المغربي.
لقد أصبح ديدن السيد رئيس الحكومة أينما حل وارتحل هو الرّد على منتقديه، وبأبخس الأساليب، ورميهم بأرذل النعوت من قبيل خدمة أجندات خارجية، والترويج لبؤر العلمانية والتغريب ، والدعوة لقوى الفساد التي حكمت المغرب لعقود..إلى حد أصبح الناس عند السيد رئيس الحكومة فريقين لا ثالث لهمـا: فريق يجاري السيد بنكيران وحكومته في كل ما تفعل ، فهو من الصالحين الذين تَعُمُّـه مرضاته وتنالُه نعمائُه ..وفريق يعترض وينتقد، وهو من المغضوب عليهم ، ومن المارقين الذين يبخسون النعمة ، ولا يتحاشون النقمــة.
في ظل مثل هذه الحكومات، ينتشر الفساد ويشتد عوده، ويتمكن من مفاصل الدولة، لأنه يجد المناخ الملائم للتكاثر ، مثلما تفعل الفطريات، التي لا تشتغل إلا في الظل، ومن وراء الأنــوار والأضواء.. ومن ثم يعُـمّ الخراب وتسود الاتكالية وروح الانتهازية، التي تسيطر على الأنفس والأفئدة، ويصبح الفساد يقارن بالفساد مثله أو بالأكثر فسادا، والقبيح يقارن بالأقبح، وهكـذا ..إلى أن تنعدم القيم الحقيقية ، والمثل العليا، التي تجعل الإنسان إنسانا ، وتجعل الوطن وطنـا يسع الجميع ، وليس وطنا لناس دون أناس، أو لفئة دون فئـة ..
لكننا إن كنا فعلا نرغب في بناء وطن حقيقي، وديمقراطية حقيقية، يعـمّ فضلهـا الجميع، ينبغي ـ بل يجب ـ أن نؤسس لصحافة حرّة ومسؤولة، تتقيد بالقانون وبالمصلحة العامة للمجتمع، وباحترام حقوق الأفراد في حياتهم الخاصة، كما تحترم حق الجماعات في التكتل والتعبير عن الرأي والتمثيل والتأطير.. ومن ثمة ـ ومن باب إعطاء كل ذي حق حقه ـ وجب التأكيد على أن الصحافي وجميع من يعمل في الميدان، أن يستحضروا في كل ما يقومون به، مبادئ الشرف والأمانة وآداب المهنة وأعرافهــا وتقاليدها السامية ، التي راكمها رواد القلم وفرسان الصحافة على مدى سنين طويلة، بذلوا من أجلها حريتهم ، بل وأحيانا كثيرة سلامتهم الجسدية بل وحياتهم .
كما لا يفوتنا أن ننبه إلى ما تشكل الصحافة الصفراء، والأقلام المأجورة على القيم والمثل السامية للمجتمع من خطر، وما تسهم به في تعكير الأمن العام أحيانا،وإثارة المواطن ، وشحنه بما لا يخدم المشروع الوطني المرتقب ..
إن الاعتبار الأخلاقي، يستوجب تأمين الحياة الخاصة، وعدم تعرضها للانتهاك، مع أن الاعتبار الأخلاقي نفسه، يوجب التعرض أحيانا إلى ذوي الصفة العامة من المسؤولين وأولي الحل و العقد،عند التحدث عن مدى مصداقيتهم وأمانتهم. إلا أن ذلك لا يعني، أن تتحول حياتهم الخاصة إلى سفر مفتوح لكل متلصص .
نقول هذا ونحن نتابع سيل الاتهامات بالفساد في الصحف الورقية والالكترونية هذه الأيام.. فكما لا ننكر أن جو الحرية التي أتيحت للصحافة ، قد أتى أكلـه ، وأن استمراره واتساعه، سوف يكون فيه خير وبركة للمجتمع ؛ لأن ما من أحد يريد أن يُكشَف فسادُه أو يصير مضغة تلوكها الألسن ، وهذا يسهم في وجه من الأوجه في الحد من الفساد، أو التقليل من حجمه على الأقل، هذا من جهة، لكن في المقابل، على الصحافة أن تدرك حجم المسؤولية الملقات على عاتقتها، وفي مقدمتها، الحفاظ على قيمة هامة يحرص عليها كل إنسان، وهي الشرف والاعتبــار ..وما تجريم القذف إلا حماية لهذه القيمة، إذ أنه ليس من المقبول أن تتخذ الصحافة من حريتها ، ذريعة للتشهير بالناس، والخوض في أعراضهم، دون ضوابط مهنية، أو سقف أخلاقي، يبقى هو المؤشر الأسمى لكل عمل صحافي حرّ.
إن الصحافة هي الوجه الآخر للديمقراطية فعـلا، لأنها تتنفس هواء الحرية وتقتات من ثمارها الزكية، وتستظل بوارف ظلالها البهية، حيث تسمو الهمم، وتعلو القمم، وتحترم الذوات كذوات، ولا تنتقد إلا الأفكار والسياسات، التي تطرح على العلن للنقاش والمطارحة و النقد ، لأن ذاك هو المعبر الأول والأخير لغربلتها، والتأشير على مصداقيتها أو عدمهــا.
إن الإصلاح الحقيقي، لابد أن يمـرّ عبـر تسليط الأضواء الكاشفة على بؤر الفساد أينما كانت،الشيء الذي يستدعي تحييد كل العراقيل والحواجز التي قد تُعيق الفعل الصحفي الحرّ والمسؤول..وفي انتظار ذلك ، ندعو الجميع إلى الصبر على نار الحرية، فمن أراد نورها فليصطلي بنارها، وليحتسب ذلك قربانا للوطن .