سأحكي لكم اليوم عن طالب جديد, انتقل لحياة جديدة, طالب بدأ دراسته في الجامعة المغربية رغم كل ما سمعه عنها بأنها ليست سوى مضيعة للوقت ماذا يفعل إنها أخر ورقة لديه وليس أمامه إلا أن يلعب بها.
دخل الكلية وهو مشحون بأفكار زرعها كل المقربون, دخل وهو ينظر إليها على أنها قبره المحتوم, وهو يحس نفسه في مأتم لم يدعى إليه لكن مجبور على الحضور. كيف لا يحس بهذا وهو لا يجد أي نوع من أنواع التشجيع في أركانها ولا يجد أي نوع من أنواع الترغيب في زاوياتها , كل شعار يقرأه يجده يتحدث عن النضال و الحقوق الضائعة و عن الثوار والثورة والمعتقلين السياسيين , موضوعات لم يكن يعلمها قبل دخوله إلى الحرم الجامعة.
تقدم خطوات إلى قلب الكلية فوجد الطلبة المنضمين للإتحاد الوطني لطلبة المغرب محتلين المكان صباحا ومساء ." بؤرة التشاؤم " ومن عندهم يصدر اليأس والقنوط , كل خطاباتهم تمس الطالب ويحس نفسه المقصود بالكلمات , إلا أنه بدل من الدعوة إلى تحدي الواقع المليء بالأشواك بحذاء الكد والاجتهاد , نجد أن أغلبهم يزرعون في نفس الطالب التشاؤم والسخط على الواقع بكل ما فيه فيصبح التعريف المناسب لهذا الطالب بأنه إنسان انتهت مدة صلاحيته إنسان يسير عكس التيار إنسان غير راض بأي شيء وغير صالح لأي شيء.
ابتعد عن حلقيتهم بعد أن سمع بأذنه ما زعزع أفكار ذهنه , وسار بين الزوايا فوجد جماعة من الطلبة من نفس شعبته اقترب إليهم , استرق السمع إلى حديثهم بعد أن نطقوا بكلمة الامتحانات وما أدراك ما الامتحانات , يقولون بأنها بدون شفافية وأن أسئلتها بعيدة كل البعد عن ما يتلقاه الطالب في الدرس , يقولون بأن الأساتذة غير منصفين ومنهم من لا يصحح الأوراق حتى , وأضاف دهشة طالبنا قول أحدهم هناك من يدفع ليأخذ تأشيرة المرور فلكل شيء ثمنه وللنجاح ثمن أيضا.
انطلق بعيدا عنهم بعد الصفعات القوية التي أخذها من حديثهم , وبعد خطوات قليلة اصطدم بمشهد لم يراه من قبل في حياته , جماعة أخرى من الطلاب اتخذت لنفسها بيتا أمام العمادة , طلاب وطالبات شعارهم اعتصام مفتوح ومطلبهم ولوج السلك الثالث , سأل طالبا كان بجانبه عن أمر هؤلاء , فضحك قبل أن يجيبه قائلا"هؤلاء هم المجازون " لم يفهم طالبنا من هذا شيئا هل هذا هو مصير المجاز أم ماذا ؟؟ تبادر إلى ذهنه في الحين أنه من الممكن أن يجد نفسه يوما ما مفترشا الحصائر معهم ,حاملا بيده شعائرهم .عاد أدراجه مسرعا واتجه إلى المدرج.
حان موعد المحاضرة , أخذ مقعده وبين مئات الطلبة الجالسين صار ينتظر قدوم الأستاذ , لاحظ بأن الاكتظاظ أكبر بكثير مما كان يتصور وأن الطلبة أغلقوا الممرات بالكراسي الإضافية , راودته أسئلة أخرى من جديد , هل من المنطق في شيء أننا جميعا سيدرسنا أستاذ واحد ؟ كيف يمكن لهذا الأستاذ أن يدير محاضرة بهذا العدد الهائل ؟ هل يعقل أن توجد أجواء تعليمية وتلقي للمعلومة بشكل صحيح في هذه الضوضاء العارمة ؟ وكيف يا ترى سأستطيع التركيز مع الأستاذ؟ .
وأثناء فترة الانتظار هذه سمع طالبا بجانبه يحدث زملائه عن سلبيات هذا الأستاذ , سمعه يقول "بأن هذا الأستاذ قلما يحظر , وإن حظر يحظر متأخرا عن موعد المحاضرة بساعة , هذا الأستاذ لا أحد ينجح عنده , وحتى لو كنت نابغة عصرك فالمعدل عنده صعب المنال " .حاول أن لا يصغي إليه لكي لا يزيد من تخوفه فأغلق أذنيه ولاح بنظره بعيدا .
بعد مدة لا بأس بها حظر المنتظر, وبعد إسكات هذا و تلك وهؤلاء و الآخرين بدأت المحاضرة, وكيف يا ترى هو منهج هذه المحاضرة ؟ منهج يعامل الطلاب على أنهم علب بلاستكية فارغة يقوم بتعبئتها ودك المعلومات فيها دكا. بشكل نظري فارغ من أي تطبيق فعلي لما يدرسه في شتى المواد وهذا ما وصل إليه الغرب ولم نصل إليه نحن بعد, محاضرة بدون نقاش , الأستاذ فيها هو سيد الموقف والطالب مدعو لهذا الحفل الكبير فقط.
انتهت المحاضرة , خرج طالبنا متجها صوب المكتبة ليبحث في المراجع التي طلبها الأستاذ , و في طريقه رأى صورا كثيرة زادة طينه بلة , رأى شبابا يسحقون وردة عمرهم بسيجارة مسمومة , هنا واحد وهناك اثنين , وبالزاوية هناك أربعة ,وسط هذا المنظر المؤسف تساؤل مع نفسه من جديد "هل سأصير يوما ما مثلهم فهم لابد كانوا مثلي ؟ " , مر بجانبهم بسرعة محاولا أن لا يستنشق دخان تبغهم . دخل المكتبة فتبددت الأحلام التي صورتها الأفلام عن هذا المكان , لا وجود لشيء اسمه حاسوب في المكتبة أو حتى انترنيت , تبدو كما لو أنها من عصر الموحدين , ليست هنالك صورة من صور التكلونوجيا تستخدمها المكتبة في أي رف من رفوفها ولا زاوية من زواياها , أجزم بأنها تستخدم الحاسوب فقط لتسجيل أسماء الطلبة الذين أعاروا الكتب. المكتبة مليئة بالكتب وكلها مفيدة بالتأكيد, لكن طالبنا يريد مرجعا واحدا فقط من المراجع المطلوبة منه لا يدري بأنها ضمن لائحة المختفون التي يبحث عنها كل الطلبة الموجودون.
انصرف من الكلية بعد عياء بحث طويل عن الكتاب المفقود ,و بعد انتظار طويل وازدحام عريض صعد إلى حافلة العودة أخيرا, ووصل إلى غرفته الصغيرة التي اكتراها بشق الأنفس , يشاركها معه طالبين آخرين , كل واحد له هدفه وكل واحد له هواه والكل يعيش في نفس الغرفة.
حان موعد النوم , وضع رأسه على الوسادة وسرح يفكر فتذكر أمرا , تذكر أحد أقاربه وشبابا من نفس قريته لم تسمح لهم الظروف القاهرة بأن يكملوا مراحل تعليمهم الإعدادية ومنهم من لم يعرف حتى الابتدائية , تذكر أشخاصا يعرفهم بالاسامي , يتمنون كل يوم أن تعطيهم الحياة الفرصة التي أعطتها له هو , أن يعيشوا ليوم واحدا فقط عيشته هو , فيستطعموا معنى العلم ويحسوا بمذاق المعرفة , تذكر كم أن أباه وأمه يتمنون كل يوم لو أنهم دخلوا المدرسة وتعلموا , لو أنهم فقط يستطيعون أن يعيشوا يوم واحدا في جلباب غير جلباب الأمية.
تذكر طالبنا كم تعاني عائلته من مصاريف دراسته, لكنهم لم يقولوا له أبدا "لا فائدة ترجى من تلك الدراسة اتركها وأرحنا من هم مصاريفك".تذكر أهم شيء وهو أنه "طالب " وليس ذلك التلميذ الذي كلما لم يفهم شيء رفع إصبعه فأجابه الأستاذ هو و غيره, التلميذ الذي يحظر إلى القسم ويأخذ من الأستاذ كل شيء ثم ينطلق ليراجع فقط. إنه طالب , طالب واعي بوضعه وأنه هو المسؤول عن مستقبله , إنه أستاذ نفسه واجبه أن يصنع درسه , أن يبحث في النقاط التي لم يصل إليها الأستاذ,أن يحقق نجاحه بيده.فتلاشت أمام عينه جميع الصعوبات وامتلأ قلبه بالأمنيات التي بدأ منذ ذلك الحين في التخطيط الفعلي لتحقيقها , ليبدأ مسيرة السداد والنجاح , يصنعها هو لنفسه.فإذا لم تصنع النجاح لنفسك لن يصنعه لك الناس ولو اجتمعوا كلهم من أجل ذلك , ولن يصنع الناس لك الفشل ولو اجتمعوا كلهم على ذلك ما لم ترده أنت لنفسك.