الحاكم الديمقراطي لا يحتاج مديحا وضربا على الطبول، تكفيه شرعيته السياسية..الديكتاتور من يحتاج كتيبةً من المغنيين وفيلقاً من المادحين وأهازيج وملاحم صاخبة؛ للتشويش على هتافات الغضب وضربات الجلادين وصراخ المعذبين في المعتقلات..
الدكتاتور لا يفرض جبروته فقط، بالأجهزة القمعية وبأبواق الإعلام المسخر، بل يزرعها في شرايين الشعب بجرعات منومة من الفن الجميل أيضا، يلقِّحها داخل الوريد بلمسة فنية ناعمة إلى أن يصير اسمُه نَفَساً، وظِلُّه حُلْما، وصورتُه نبضةَ قلب..
لحجب قبح الاستبداد، يحتاج الحاكم إلى الكثير من الأصباغ من رسم أنامل مبدعة، يحتاج نحتا دقيقا ومتناسقا لتماثيله المقدسة في الساحات العمومية، يحتاج أغاني عذبة تُذكرنا بمنجزاته العظيمة، يحتاج أفلاما تُصور أساطيره ومعجزاته، ويحتاج صورا ملونة وهو محاط بكبار النجوم..
الفنان لا يحتاج بالضرورة دعم حاكم مستبد ليطاوعه الالهام وليبدع، لكنه يدرك بذكائه الانتهازي بأنه لن يصل إلى الناس إذا لم ينل رضا السلطة، كما أن ماكينة الاستبداد القادرة على صناعة شعب خاضع ومطيع بالترغيب والترهيب، قادرة على جعله يؤمن لا شعوريا بالحاجة الوجودية لظل الديكتاتور، وقادرة على جعله يُسخِّر ملكاته الفنية ورصيده الرمزي طوعيا وبحب وتفان في سبيل خلود الحاكم فوق الكرسي، وإعادة انتخابه مدى الحياة..لاحظوا كيف تصدى الكثير من الفنانين بشراسة لثورة الشباب في بداية الربيع العربي حين طالبوا برحيل الاستبداد وببعض الكرامة والحرية.
أكثر ما يخيف ويربك حاكما مستبدا هو فنان معارض، ولو كان هذا الفنان بئيسا أعزل لا يملك إلا صوتا منتقدا وفنا ينشد الانعتاق..وأكثر ما يشعره بالأمان والاستقرار هو فنانون يهللون، وجماهير ترقص، ونجوم كبار يزينون خلفية المشهد..فرغم قمعه للحقوق السياسية والمدنية، يكون المستبد حريصا على ضمان حرية الغناء والرقص والاستعراض ودعم المهرجانات الكبيرة، ويكون حريصا على العناية بتسويق صورة الحاكم المثقف والمنفتح والمرهف الحس والراقي الذي يدعم الحرية والجمال والفرح.
هل كان نجوم الفن في مصر في حاجة إلى الهتاف بحياة حاكم عسكري انقلب على رئيس شرعي لنقدر عبقريتهم الفنية؟، وهل يحتاج نجوم الدراما السورية إلى التغزل في قبح النظام الدموي للأسد ليزدادوا شهرة؟ وهل كان الكثير من المبدعين الكبار عبر تاريخ الإنسانية في حاجة إلى نظم قصائد مديح في حضرة السلاطين والخلفاء والحكام المتجبرين لننبهر بإبداعاتهم وليخلد الزمن أسماءهم؟.. لم يكونوا في حاجة إلى ذلك، الاستبداد من يحتاج لجاذبيتهم وسحرهم في الدعاية، لهذا يغدق عليهم نعم الدنيا وملذاتها للوقوع في شرك عبادته، لكي يوظف المدفعية الثقيلة لشعبيتهم في اللحظات السياسية الحرجة..
وهل كان فنان عالمي كالشاب خالد في حاجة إلى إعلان دعمه لترشح رئيس مريض كعبد العزيز بوتفليقة ليتربع على عرش الجمهورية لولاية رابعة؟..ليته يسانده لأنه يراه حاكما عادلا وديمقراطيا ويضمن له حرية التعبير، المؤسف هو أنه يدعمه لأن في عهده أصبحت له حرية شراء قنينة ويسكي من الأسواق الجزائرية..
يبدو أن بعض الفنانين يكون آخر همِّهم أن تعيش بلدانهم في أجواء الديمقراطية والحقوق والحريات، ما يهمهم أكثر هو ما يوفره لهم الحكَّام من امتيازات وريع وأوسمة وحرية احتساء كأس ويسكي في حانات البلد.. من أجل ذلك، فهم مستعدون للانبطاح وتقبيل التراب ومبايعة الموتى ورفع الصور والتحاف الأعلام فوق المنصات وقبول كل العطايا ولو كانت جنسية بلد على خلاف مع وطنهم الأصلي..
المهم هو احتساء الويسكي هناك، واحتكار المهرجانات السخية.. هنا، نعم، كما تقول أغنية الشاب خالد الشهيرة «C’est la vie»...