محمد الدريسي
عاد موضوع التوجيه التربوي إلى واجهة الأولويات ولوحة القيادة في تدبير منظومة التربية والتكوين، وكذا في النقاش العمومي والإعلامي، وذلك بعد الخطاب الملكي الأخير ليوم 20 غشت 2018 الذي كان له الوقع الكبير في هذا العود.
فقد خص هذا الخطاب مجال التوجيه بحيز مهم ومحوري في تشخيص واستشراف واقع العلاقة بين التكوين والشغل؛ وإن كانت خطابات سابقة تطرقت لنفس الإشكالية المؤرقة بشكل أو بآخر، إلا أن جلالة الملك ـ في خطابه هذا ـ أشار بتحديد غير مسبوق للتوجيه المدرسي والمهني وآليات اشتغاله، وضرورة تطويرها بما يستجيب لرهانات الاندماج السوسيومهني للشباب.
إن التوجيه المدرسي والمهني يحتل موقعا مفصليا في منظومة التربية والتكوين تتقاطع فيه اهتمامات وغايات قطاعات التعليم المدرسي والجامعي والمهني وكذا انتظارات وإكراهات سوق الشغل؛ ويشكل فسحة لدى التلميذ تتداخل فيها العوامل الذاتية وعوامل المحيط المدرسي والاجتماعي والاقتصادي، موقع يستحضر واقع المتعلم ويستشرف مستقبله؛ وبالتالي فإنه المدخل السليم للحديث عن إشكالات العلاقة بين المدرسة ومحيطها وما يرتبط بها من قضايا المردودية الداخلية والخارجية لمنظومة التربية والتكوين.
والمتأمل في صيرورة الإصلاح، يجد أن ربط المنظومة بمحيطها وتحقيق غايات هذا الربط، موضوع ظل حاضرا بصور وآليات ومداخل متعددة على مستوى التوجهات الاستراتيجية والنصوص التأطيرية والتنظيمية للحياة المدرسية؛ فالميثاق الوطني للتربية والتكوين رسم صورة مغرية للمدرسة الوطنية الجديدة التي " تسعى إلى أن تكون مفتوحة على محيطها بفضل نهج تربوي قوامه استحضار المجتمع في قلب المدرسة، والخروج إليه منها بكل ما يعود بالنفع على الوطن"؛ ثم جاء البرنامج الاستعجالي بوصفه نفسا جديدا للإصلاح، وتحدث عن "الإدماج التدريجي للتربية على الاختيار وإنماء الحس المقاولاتي واعتماد المشروع الشخصي للتلميذ"، وفي نفس السياق جاءت "بيداغوجيا الإدماج" كمحاولة متأخرة لأجرأة اختيارات المنهاج المعبر عنها في الكتاب الأبيض من خلال مفاهيم عدة: "معرفة الذات وتنميتها، ومعرفة المحيط الاجتماعي والاقتصادي، والقدرة على الاندماج فيه، والبعد التنبئي الاستشرافي في التعلم، وأخلاقيات المهن والحرف" وغيرها...؛
إلا أن التناول الواقعي والموضوعي لهذه القضايا، يفرض حتمية الاعتراف بأن هذه التوجهات والاختيارات لم تجسد فعليا وبالقدر المطلوب على مستوى المناهج التربوية المطبقة وعلى مستوى الممارسة الصفية وأنشطة الحياة المدرسية؛ فقد بقيت حبيسة الوثائق وفي أحسن الأحوال حبيسة قاعات اللقاءات التكوينية والتواصلية والخطابات الرسمية.
إذن، لعلها فرصة جديدة نتلمس فيها إرادة حقيقية لاختبار إمكانيات ولوج الإصلاح التربوي من زاوية التوجيه المدرسي والمهني بمفهومه الشامل؛ وقد شهدنا بصيص أمل من هذا القبيل في العرض المقدم من طرف السيد الوزير بين يدي صاحب الجلالة حول "الحصيلة المرحلية والبرنامج التنفيذي في مجال دعم التمدرس وتنزيل إصلاح التربية والتكوين"، حيث قدم حزمة من الإجراءات والتدابير التي ستعمل بها الوزارة على المدى المتوسط؛ لعلها فرصة ـ محاطة بكثير من التحفظ والترقب ـ بالنظر إلى التراكم الكبير في الفوارق بين الخطاب والواقع، والذي يغذي بشكل مطرد منسوب فقدان الثقة في الإصلاح، مما شكل ويشكل فرملة حقيقية لتعبئة وانخراط مختلف المتدخلين والفاعلين فيه.
ومن باب النظرة الإيجابية المتفائلة، وإسهاما في توسيع ذلك البصيص، أود أن أدلي بدلوي في ما يخص مستلزمات تنزيل مضامين عرض السيد الوزير في شقه المتعلق بالتوجيه المدرسي والجامعي والمهني، كمدخل أساسي لمعالجة إشكالية تكوين/تشغيل، وذلك من خلال أفكار ومقترحات قد تكون أولية وقابلة للتطوير والتعديل والتصويب.
1ـ على المستوى المؤسساتي والتنظيمي:
* تعزيز التكامل بين القطاعات الحكومية المعنية، فرغم إدماج قطاع التكوين المهني مع قطاعي التعليم المدرسي والجامعي لأول مرة في تاريخ المغرب في الحكومة المعدلة سنة 2013، إلا أن قطاع التشغيل بقي خارج هذه المقاربة، مما قد يعيق التقائية السياسات والتدابير المتخذة والتي تروم نفس الفئات ونفس الأهداف في الكثير من الأحيان، وبالتالي فإن تشكيل وزارة تجمع قطاعات التعليم (المدرسي والجامعي) والتكوين المهني والشغل سيكون له وقع إيجابي في بلورة سياسات منسجمة ارتباطا بالإشكالية المطروحة.
وفي نفس الصدد، فإن تعدد المتدخلين والقطاعات المشرفة في مجالات التكوين المهني بين مكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل OFPPT وقطاعات حكومية مختلفة كالسياحة والفلاحة والصناعة التقليدية والشباب والرياضة وغيرها، ينتج خليطا من التكوينات والبيداغوجيات لا تكاد تجد خيطا ناظما بينها؛ مما يستدعي التفكير في توحيد مجالات التكوين المهني تحت إشراف جهاز واحد.
* إحداث المرصد الوطني للشغل لكي يقوم بتتبع منتظم وشامل لمؤشرات الاندماج في سوق وكذا رصد التحولات المستمرة في عالم المهن ومتطلباتها، وإعداد تحيين وثائق الكفاءات المرجعية للمهن والوظائف.
* تفعيل أدوار المراكز الجهوية للتوجيه المدرسي والمهني وتزويدها بالموارد البشرية المؤهلة وبالوسائل والتجهيزات الضرورية، وكذا إعادة توطين المراكز الإقليمية للتوجيه المدرسي والمهني كبنيات خدماتية تابعة لمصالح تأطير المؤسسات التعليمية والتوجيه، وتدقيق العلاقات الوظيفية بين هذه البنيات.
* الارتقاء بتجربة المسارات المهنية عبر إحداث "الثانويات المهنية" على غرار التجربة الفرنسية، حيث سيمكن ذلك من توسيع هذه المسارات وعدم الارتهان لإكراهات خريطة معاهد التكوين المهني.
* تفعيل أدوار مجالس التوجيه لتكون فرصة تأخذ كامل وقتها للتداول في اختيارات التلاميذ والطلبة من قبل مختلف المتدخلين، وذلك بناء على سيرورة وتراكم معطيات المواكبة الفردية للتلاميذ المنجزة طوال مسارهم الدراسي والتكويني، وجعل هذه المجالس في مستوى الثانية البكالوريا قناة محددة لولج التكوينات بعد البكالوريا.
* مراجعة هيكلة شعب ومسالك البكالوريا لتجاوز التشتت غير المفيد، وتجميعها في أقطاب تحمي التلميذ من "التيه" في سبيل اتخاذ القرار الصائب؛ وكذا مراجعة نظام امتحانات بهذا السلك، خصوصا المكون الجهوي الذي يشكل عائقا محبطا لفئة عريضة من التلاميذ.
* مأسسة آليات جهوية للتنسيق الدائم بين قطاعات التعليم المدرسي والتعليم الجامعي والتكوين المهني والتشغيل، وبين هذه القطاعات والجماعات الترابية والمجالس الجهوية للاستثمار ووكالات إنعاش التشغيل والكفاءات، على أن يكون عمل هذه الآليات وفق خطط عمل جهوية تروم خلق الملاءمة بين عروض التكوين وحاجيات سوق الشغل وبانسجام مع مخططات التنمية الجهوية.
* مراجعة طرق وشروط ومعايير التشغيل لدى المقاولات، بالشكل الذي يتيح فرصا أكبر لحاملي الشواهد والدبلومات، وخصوصا في المشاريع والمخططات المدعومة من طرف الدولة من قبيل المخطط الأخضر وما شابهه.
2 ـ على مستوى خدمات القرب بالوسط المدرسي والجامعي والتكويني:
* الرفع من عدد خرجي مركز التوجيه والتخطيط التربوي في أفق تعيين مستشار في التوجيه بكل ثانوية إعدادية أو تأهيلية، وبكل معاهد التكوين المهني والكليات والمدارس والمعاهد العليا؛ ذلك أن تحقيق مواكبة حقيقية ومنتجة للتلاميذ والطلبة رهان أساسي لتنزيل مقاربة "المشروع الشخصي" التي ينبغي أن تمتد منذ السلك الإعدادي وإلى مرحلة ولوج سوق الشغل، وهذا لن يتأتى بالوضعية الحالية التي تعرف نقصا حادا في أطر التوجيه التربوي بالمؤسسات التعليمية، في حين لا تتوفر هذه الخدمة بالمرة في معظم مؤسسات التعليم العالي والتكوين المهني.
* تفعيل أدوار الحارس العام بالمؤسسات الثانوية المتعلقة بتتبع أوضاع التلاميذ، والتفكير في تغيير هذه التسمية التي تعطي انطباعا "أمنيا" وزجريا لدى رواد الفضاء المدرسي في حين أن أدواره الحقيقية لا تمت بصلة لهذه المقاربة.
* تفعيل أدوار باقي المتدخلين في مواكبة أوضاع التلاميذ دراسيا واجتماعيا وصحيا ونفسيا، والتي لا شك أنها مدخلا مهما في معالجة التعثر الدراسي وتيسير سبل النجاح الدراسي والمهني للشباب؛ وفي هذا الإطار اعتمدت الوزارة آلية " الأستاذ الرئيسي" لتحقيق مواكبة يومية لأوضاع التلاميذ، وتمكين المستشارين في التوجيه وربما أخصائيين آخرين من التدخل لفائدة الفئة المعنية وفي الوقت المناسب؛ غير أن هذه الآلية الجديدة (المستوردة من النظام الفرنسي) لا تختلف كثيرا عن آلية "الأستاذ الكفيل" التي تم إقرارها منذ سنوات دون أن تجد طريقها للتفعيل، وهنا لابد من الإشارة إلى بعض الإجراءات المصاحبة والمحفزة التي يمكن أن تساهم في إنجاح التجربة الجديدة:
- انتقاء الأساتذة للتكليف بهذه المهمة حسب التكوين الأكاديمي والخبرة الميدانية وكذا المواصفات الشخصية والرغبة الفردية؛
- التمييز الإيجابي للأستاذ الرئيسي من حيث عدد ساعات العمل، وكذا إقرار تعويض إضافي عن المهمة؛
- جعل ممارسة مهمة "الأستاذ الرئيسي" مقوما ومعيارا من بين معايير الانتقاء لولوج مهام أخرى، من قبيل مباراة المستشارين في التوجيه أو العمل بالمراكز الإقليمية والجهوية للتوجيه المدرسي والمهني.
3- على مستوى المناهج التربوية والحياة المدرسية:
* إدماج بعد التوجيه والانفتاح على المحيط السوسيومهني في المناهج والمقررات الدراسية، بالشكل الذي يجمع بين سيرورتي التعلم والتوجيه، ويؤسس لممارسة تربوية مُوَجِّهة منسجة مع مقاربة المشروع الشخصي للتلميذ.
* إرساء آليات التواصل والتنسيق المستمر بين الأطر التربوية والإدارية وأطر التوجيه التربوي، وبين المدرسة والفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين، بهدف تنظيم أنشطة مشتركة داخل وخارج المؤسسة؛
* تفعيل الأندية والأنشطة المندمجة واستثمارها في ربط التعلمات بالتوجيه الدراسي والمهني؛
وخلاصة القول أن معالجة إشكالية علاقة التكوين بالتشغيل لابد أن تمر عبر تطوير وتحسين آليات التوجيه المدرسي والمهني والجامعي بمفهومه الواسع المرتكز على المواكبة المنتظمة والهادفة لأوضاع التلاميذ والطلبة، وفق منظور واضح يرمي إلى مساعدتهم على بلورة مشاريع شخصية تؤهلهم للاندماج الناجح في المحيط الاجتماعي والاقتصادي؛ فهذه الآليات تعاني من ضعف في جودة الأداء ومن أعطاب بنيوية، رسختها موجات من التردد لدى الوزارة الوصية على مستوى تصورها لمنظومة التوجيه التربوي وأدوارها، وكذا نجاعتها إن لم نقل الجدوى من وجودها أصلا.