كون الشأن التعليمي عندنا يعاني من أزمة حقيقية، فهذه مسألة لا خلاف حولها بين المهتمين، و لا خلاف حولها حتى بين شرائح المجتمع من كل المستويات، لأن كل أطياف هذا المجتمع تكتوي و تعاني مباشرة من آثار هذه الأزمة و ترصدها عن قرب في أبناءها و بناتها في مستواهم التعليمي و الثقافي و التربوي، علميا و تقنيا و فنيا و كذا تربويا.
و تجاوزا منا نعبر هنا ب"السياسات" عن هذا التخبط و الارتجال الذي يطبع مسارنا في المسألة التعليمية، مسايرة لاستخدامه كلما تم الحديث عن هذا الموضوع. و لا حاجة لنا في هذا المقال أن نتوجه بالنقد إلى هذا الاستخدام.
عرف هذا الموضوع معالجات عديدة و تدخلات مختلفة، غير أن جل التدخلات التي تروم معالجة هذا الإشكال، تتناوله من جانبه التقني فحسب أو تكاد، أو تركز أكثر على هذا الجانب و لا تعالج جوانب أخرى بما يكفي من الاهتمام، حيث يرجع أغلب المتدخلين الأسباب التي تقف وراء فشل "السياسات" التعليمية بالمغرب منذ الاستقلال إلى اليوم إلى طبيعة "المناهج" و "المسالك" المعتمدة، أو إلى الإمكانيات الضعيفة المرصودة من طرف الدولة لتنشيط هذا الشأن.. و قَلَّ أن تجد من يرجع بالأزمة إلى أصولها البنيوية في التحليل و الرصد.
نعم، و بدون شك، فهذه الأسباب تزيد في تأزيم الوضع التعليمي، لكنها في نظرنا ليست هي الأسباب الأساسية. في واقع الأمر "الأزمة" التعليمية بالمغرب مشكلة تصورية بالأساس، فكل المبادرات التي تعاقبت على وضع حلول لهذه المسألة انطلقت في تصوراتها من خارج الذات المغربية و الخصوصية الوطنية و الحاجة "أو الحاجات" الحاضرة و المستقبلية الحقيقية للمجتمع المغربي، هذا إذا سلمنا بوجود تصور.
فكل السياسات المعتمدة، سابقا و إلى اليوم، لم يكن همها الأول هو إيجاد الأجوبة الملحة للأسئلة الكبرى الموضوعية و الحقيقية للمجتمع المغربي. مع الإشارة إلى أن هذه الأسئلة الكبرى تبقى صامتة، لأن لا أحد ينوب عن المجتمع في الجهر بها و التعبير عنها و الدفع بالقوة المطلوبة من أجل السعي للإجابة عنها.
بل إن إشكالية التصور للمسألة التعليمية ذاتها هي إشكالية فرعية لإشكال تصوري عام، مفاده عدم توفر الوعي المغربي الجمعي على "تصور" لطبيعة "الفرد" المواطن الذي يحتاجه المجتمع، و هذا بدوره لا يقوم إلا بتوفر تصور للنموذج المجتمعي الذي نريد، و الذي يجب أن ينبثق بشكل تلقائي و واع في نفس الوقت من الذات الثقافية و منطلقا من مقومات الهوية الوطنية، فهذه الاختلالات التصورية إذن هي اختلالات متناسلة من اختلال في التصور العام للمجتمع المنشود و طبيعته و القيم التي تسود داخله و طبيعة وظائفه و العلاقات التي تربط مكوناته و الأدوار التي يريد أن يضطلع بها في المستقل...
من شأن توفر هذا التصور العام للمجتمع أن يسهل طريق بلورة تصورات فرعية مثل تصور البرامج و السياسات التعليمية و غيرها على أساس أن تصب في أهداف التصور العام للمجتمع الذي يشكل الرؤيا التي تأطر اجتهاداتنا في وضع التصور و السياسات التعليمية و غيرها، و في غياب هذه الرؤيا العامة تبقى كل الجهود المبذولة، مهما أوتيت من إخلاص و أتيح لها من وسائل و رصد لها من إمكانيات، جهودا غير مجدية و غير مفيدة في إخراج واقعنا التعليمي و التربوي من أزمته.
إن فشل التجارب المتعاقبة في مجال التعليم في بلادنا مرجعه بالأساس إلى عدم ارتكاز هذه التجارب المتعاقبة على رؤيا ذاتية وطنية تستحضر الهوية الحضارية التاريخية و تستشرف الهوية المستقبلية للفرد و المجتمع المنبثقة بدورها "أي الهوية" عن المجتمع لا عن جهد نخب محددة مهما توفر لها من مؤهلات و تحقق لها من إخلاص، و سنبقى نراوح مكاننا ما دامت هذه الرؤيا الجماعية غائبة أو مغيبة حتى و لو استعرنا أحدث المناهج و البرامج المعتمدة في أكثر المجتمعات تطورا. و الملاحظ أنه مع غياب الاهتمام بهذه الرؤيا تصورا و تنزيلا لا زال الاستغراق كليا في الجوانب الفنية و الشكلية على أوجه مما يكلفنا الكثير من الخسائر في الأموال و الإنسان و المستقبل.