مع بداية كل سنة، تتأهبُ وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني لإنجاح الدخُول المدرسي، دخولٌ تطبعه حَركة دؤوب وكثير من الرسميات والاجتماعات والمذكرات. ففي مثل هذا الوقت بالذات تنتعش أسواق الكتب والمحفظات ويُنفَض غبارٌ صيْفي قاتم عن مقاعد كثيــــرة وبين رداهات مؤسسات عديدة، فالجميع على أهبة الاستعداد لاستقبال أفواج غفيرة من التلاميذ، مُشمرين بأكوام من المستلزمات الدراسية والعُدة التربوية العلمية التي يفرح بها التلاميذ، خاصة الجُدد منهم، والتي لا تزينُهم إلا بعدما تكون وخزا أليما في جيوب آبائهم وأولياء أمورهم. أما عند الوزارة الموقرة فهي فُسَيْفساء رسمي لا بد من توفره وتحصيله قبل دخول عتبات أي مؤسسة تعليمية داخل الوطن كله.
يحلُّ إذن موسمُ الوجَع المدرسي - بمَفهُوم الآباء- وتفتح المؤسّسات أبوابها لتستأنف رُوتينها التعليمي التربوي المعهُود، خاصة بعد ركُودٍ صيْفي عابر. تبدأ الوزارة أنشطتها بفتح شهيتها بالعديد من القرارات والمذكرات التي تُفصّل كيفية الدخول، ومن الأول واللاحق في العملية، ثم مَنْ عليه المعَول في عكس ما تهدف إليه الحكومة من إصلاح تعليمي وفق الرؤية الاصلاحية الجديدة، فالأمر في البداية يَحْبل بكثير من الحزم والعزم، وخاصة إذا توغلنا داخل دواليب مكاتب المؤسسات والمديريات والأكاديميات، حركة استثنائية تهز الأوراق والملفات و رباطات العنق أيضا، تُغير من سحنات وجوه كثيرة، وتحديدا تلك التي على التو شرعت في التسيير وادارة تصورات الوزارة الوصية في الميدان. فقد لقنوهم زورا أن المقدمات الصحيحة دائما عليها تبنى النتائج الجيدة، ولذلك تراهم لا يعرفون بلورة المفاهيم التي تأتيهم من فوق وفق تلك القاعدة النبراس، لأن الواقع شيئ آخر لم يكن في الحسبان، لذلك فإنهم يزيدون أحيانا من وجع الأسر والعوائل، وكل من يعتقد -عموما- أن الدخول المدرسي دخول اجتماعي للفرحة والنعيم المشترك.
لن أستطرد في وصف مظاهر الدخول المدرسي الذي تتصوره الوزارة تصورا مثاليا، يفتح شهية القاصي والداني من عموم أهل الشأن في الادارات المكيفة، والذي يصير بعد ترجمته على أرض الواقع خليطا مشبوها فيه من السقم والشذوذ التدبيري ما يُنفر المُجتمع ويدفعه إلى مزيد من كره المدرسة المغربية وكل طقوسها وأشكالها الفرجوية المختلفة. لكن، سأكتفي اختصارا بالإشارة الى ثلاثة أنواع من أوجاع الدخول المدرسي، والتي كبرِنا معها رِدْحًا من الزمن وما زالت تتناسل منذ أواخر القرن الماضي و أثر نزيفها الى الان يسيل، ونبدأها ب:
1 - أب حائر: الوجعُ الأول صُورة تأخذنا نحو مشهد أب رث الحال كثير العيال، يجتهدُ عسِيرا لجلب قوت يومه انطلاقا من تقديم خدماته المتواضعة لأرباب الضيعات الكبيرة؛ يُشذب أشجارهم ويؤبر نخلهم ويهذب بساتينهم، وأحيانا يستعين ببعض أعمال البناء، ثم ينتظر طويلا عائد كل ذلك، وغالبا ما يكون زهيدا لا يسُدّ رمقه إلا حينما يُرفق بزكاة ثِمار الغَلة وما فضُل منها. فجأة يأتي الدخول المدرسي بكلِّ ثقله الجَهدي والمالي مُذكِرا إياه أن لديه خمسة أبناء، أكبرهم يلج هذا الموسم السنة الثالثة إعدادي، أما صغيرهم فقد تكرر في القسم الأول فيما أظهرته نتائج آخر السنة المنصرمة، سنة غابت فيه معلمتهم الأسدوس الأول تقريبا لأسباب قيل لهم أنها مرضية.
وضع عائلي ثقيل بلا شك على الأب المطالب بتوفير مُستلزمات كل واحد من أبنائه، بل إن وضعه يزيد سوءا حينما يعلم أن السيد الوزير أمر بتنقيح المقررات الدراسية من مضامينها المتطرفة، أي ان ما فكر فيه من استجداء بعض الكتب المستعملة من معارفه السابقين لا يفيده في شيء. يتضاعف وجعه بشكل هستيري ليقرر -مُكرها- قتل مسيرة بعض من أبنائه الدراسية. فالهدْرُ عند الوزارة نقيصَة تشِين مُخططاتهم الصُّورية، وهو عند بعض الآباء رصَاصةُ رحْمةٍ تقِيهم التشرد واستجداء طعام الأبناء على رصيف الشوارع المبلطة.
2 – تعيين جديد: أستاذ جديد على التو لفظه مركز التكوين الذي امتد شططا إلى أوائل غشت الماضي، بسبب الاحتجاجات المعلومة التي خسر فيها الجميع إلا الدولة، يتأبط محفظته التي اشتراها خِصيصا لهذا الدخول المدرسي الجديد، وعلامات الحزم بادية عليه، إنه مثال رسمي لخدام الدولة/الوزارة الأوفياء، الذين مازالوا ترهبهم الأوامر والمذكرات، ولم يكتووا بَعْدُ بنارِ الاقتطاع والسجن في هوامش المدن والقرى. ينزل من "فارْكُونيت" وسط مدشر نائي يُغالب الموت، متربع تحت أقدام جبلٍ شاهِق. ويسيحُ ببصره الثاقب مُتفرسا الوجُوه الشاحبة التي تتكئء على جدار المسجد، الذي بُني وحِيدا في مُنتهى الطريق الترابي. ينِطُّ إليه أحد كبار القرية، وبمشقة كبيرة يتواصل معه بالإشارات؛ نظرا لاختلاف السنن اللغوي بينهما، ثم يقودُه مباشرة الى زاوية المسجد، فهناك يستقر مدة معلومة حتى يحضر السيد المدير؛ فقد ذهب الى السوق باحثا عن كبش عيد سمين زهيد. هنا يتذكر الشاب الجديد أن ما يُقال عن مهنة التدريس وما كانوا يضحكون به أيام وجودهم في المركز كان صحيحا، فتمة مفارقات عجيبة بين ما يُخَطط له في مكاتب الوزارات، وبين ما هو موجود في قلب الميدان.
3- طالب جديد: هو في الحقيقة وجعٌ متجدد، نبصِر فيه واقع شاب يافع، مليء بالنبض والحياة، تقترضُ أمّه الأرملة ثمانمائة دِرهم من جارها الموظف الحُكومي، الذي أكد لها أن دعم الحكومة للأرامل الذي وعد به رئيس الحكومة كله كذب وبهتان. تتجلد الأم العجوز، و تسلمُ المبلغ للابن الطالب الذي يرحل بعيدا عنهم ليكتري له غرفة مُتواضعة، تجثم عند أقدام المدينة التي يسكنها رئيس الجهة المتصابي، فهو مَحْرُوم من السّكن الجامعي رغم ثرثرات المسْؤولين بأحَقيته. وقد يزيد الوضع سُوءا عندما يعلم أنه تم تغيير شعبته دون سابق إنذار، تماشيا مع مُخططات الجامعة التي تتصرف تحت وجع الخصاص واستهتار بعض الأساتِذة. يدخُل الجامعة جديدا مُسْتكشِفا رحابها الواسع، فيُمَنّي النفس بأشياءَ عديدة؛ أولها أن يكون اسمه بارزا في لائحة الممنُوحِين، وأن لا يخدع مرة أخرى كما خُدِعت أمه قبله في أكذوبة دعم الأرامل.
هذه بعض صُور الدخُول المدرسي، التي لا تراها الوزارة، والتي يعيش فيه الناس مرارة ووجعا. فبينما تشتغل الوزارة على المستوى الأفقي الذي تنظر فيه بعيدا نحو أفق 2030، فإنها تنسى أو تتناسى أن هناك من لا يرى إلا مُرور هذا الدخول المدرسي بسلام، وأن لا يغرق في بحر الديون قبل أن يوفر لأبنائه لعنة المستلزمات الدراسية الكثيرة الثقيلة. فالبوْنُ شاسع بين التصورات الوزارية والواقع الموبُوء بعِلل اجتماعية عديدة كالفقر والتمييز وتذمر الجميع من المدرسة المغربية وما آلت إليه من انحطاط؛ مَدرَسةٌ تنسى وزارتها الوصية أن كل دخول مدرسي هو في الوقت نفسه دخول اجتماعي يجب الأخذ فيه بحوائج الناس وسَد ثغرات عجزهم قدر المسْتطاع.