«حاربت» الحكومات السابقة الفساد، وعلى رأسها الرشوة بالحملات الدعائية الفارغة في المدارس، فيما عجزت عن مواجهة المرتشين والفاسدين الحقيقيين الذين ينخرون الحياة العامة خارج المدارس، محاولة إقناعنا، بأن إرغام طفل يبلغ من العمر عشر سنوات على مشاهدة شريط يتناول سلبيات الرشوة، هو الوسيلة «الناجعة» لمحاربة الظاهرة، وهاهي الحكومة الحالية، وعلى رأسها وزارة التربية الوطنية تحارب الغش بحملة دعائية في «الوقت الميت»، أسمتها «لننجح باستحقاق»، معتقدة أن تنظيم معرض للرسومات، وبث شريط فيديو، وإشراك بعض الفنانين/ المهرجين في الحملة، هو السبيل فعلا لمحاربة الظاهرة. طبعا، وفي إطار هذا العبث، خرج الوزيران، ومعهما بعض المسؤولين في الوزارة ليطلقوا الشعارات يمينا وشمالا، وكأني بهم من حواريي النبي عيسى نقاء وفضيلة، لكن لا أحد من هؤلاء، طرح مسألة الاستحقاق على نفسه وهو في أرذل العمر، قبل طرحه على أطفال في عمر الزهور، لا أحد منهم فهم أنهم يشكلون نموذجا حيا لانعدام ثقافة الاستحقاق والجهد والجدارة، وطرح أسئلة من قبيل، أي هل «نجاحه» في الحصول على منصبه والحفاظ عليه، تم باستحقاق أم بشيء اسمه الزبونية والمحسوبية؟
البعض قد يعتبر هذا السؤال بعيدا عن جوهر الحملة الدعائية، لكن بالقليل من النظر، سنجد أن حاجتنا اليوم لتنظيم هذه الحملات الدعائية العبثية في الأسابيع الأخيرة لفائدة تلاميذ قضوا في مدارسنا اثنتي عشرة سنة، هو التقويم الحقيقي لكفاءتنا كمربين ومؤطرين وإداريين ومسؤولين بل وآباء وأمهات أيضا. فما يحصل هو أن ما يجري في كل المنظومة من كوارث في التدريس والتقويم والتدبير والتسيير هي العلل الحقيقية لغياب ثقافة الاستحقاق والمجهود والجدارة، ليس فقط في امتحانات الباكلوريا فحسب، بل في التقويمات التي تنظم في الفصول الدراسية، وفي التقويمات التي يقوم بها المفتشون للمدرسين، وفي التقويمات التي يقوم بها المسؤولون الإقليميون والجهويون للمفتشين، والتقويمات التي تقوم بها المصالح المركزية لهؤلاء. إن الأمر يتعلق بمنظومة تربوية عمادها الريع بكل تجلياته، ولنبدأ بوزيري القطاع، ولنفكر في حالة البرجاوي مثلا وظروف استوزاره، باحثين عما يجعل منه «وزيرا عن استحقاق»، وعن علاقة القانون الدولي الذي تخصص فيه بقطاع التكوين المهني الذي ينتسب إليه دون دراية واطلاع وفهم، ولننزل قليلا إلى «الكائنات العجيبة» المسيطرة على الكتابة العامة والتفتيشية العامة، ولنتساءل متى وكيف تم تعيينهم؟ ومن أين تم استقدامهم؟ ومن فعل ذلك؟ وأي مؤهلات كان يمتلكها مثلا، المفتش العام الحالي للشؤون التربوية «خالد فارس» لتقوم لطيفة العبيدة بتعيينه في منصبه قبل سنوات؟ أي استحقاق في أن يتم تعيين مفتشا عاما مع أنه لا علاقة له بهيئة التفتيش؟ هل التحاقه كأستاذ للتعليم العالي في مركز التفتيش التربوي بعد سنوات طويلة على تعيينه مفتشا عاما، كان باستحقاق؟ هل اختيار أعضاء اللجنة الذين وقعوا على محضر نجاحه في الحصول على منصبه هذا تم باستحقاق؟
ولننزل قليلا لرهط المدراء المركزيين، ولنتساءل لماذا لا تتجاوز المديريات المركزية الرسمية عشر مديريات فيما يتجاوز عدد المديرين المركزيين المستفيدين من تعويضاتهم السمينة وامتيازاتهم الواسعة 22 مديرا؟ أين الاستحقاق في تحويل قسم إلى مديرية من أجل عيون شخص بعينه؟ أين الاستحقاق في تجزيء مديرية معينة إلى ثلاث مديريات وهمية من أجل أشخاص لهم نفوذ حزبي أو عائلي أو جهوي/عرقي؟ أي استحقاق في تعيين مدراء مركزيين لا علاقة لهم بالتربية في مناصبهم؟ أين الاستحقاق في الاحتفاظ بمدير مركزي مكلف بشيء وهمي سماه «الأمن الإنساني»، فيما هذه المديرية الوهمية لا يتجاوز عدد موظفيها «كاتبتان».
ترسيخ ثقافة الاستحقاق يكون بمسؤولين حصلوا على مناصبهم باستحقاق.. تلك البداية والباقي مجرد تفاصيل.