التدريس مهنة صعبة وشاقة وذات تأثيرات فورية خطيرة على الصحة النفسية للمدرسات والمدرسين، وهو الأمر الذي يسهل رصده بناءا على عدة مؤشرات، منها تزايد عدد الذين يتم إعفاؤهم من مهامهم كل سنة نتيجة تدهور حالتهم العصبية والنفسية، والذين تجاوزوا السنتين الماضيتين مائتي حالة عن كل سنة، ثم تزايد عدد المصابين منهم بأمراض فيزيولوجية مزمنة نتيجة لأسباب نفسية، كالضغط والسكري وباقي الأمراض الأخرى المرتبطة بالاضطرابات النفسية وهي كثيرة، ثم العدد الكبير من المدرسين الذين قدموا طلباتهم للمغادرة الطوعية قبل خمس سنوات. والمفارقة هي أن معطى الضغوطات النفسية المرتبطة بالمهنة تعتبر موضوعا يوميا عند المدرسين، ويشكل لديهم مصدر قلق كبير، لكنه لا يحظى بأدنى أهتمام من الوزارة الوصية وكذا من طرف النقابات.
صحيح أن المجتمع المغربي شأنه شأن كل المجتمعات العربية، لا تزال متخلفة جدا في التعامل مع الصحة النفسية، إذ نقابلها بالكثير من النكران والتعتيم مكتفين بالمقابل بأحكام القيمة عن الاضطراب النفسي والعصبي، وصحيح أيضا أن الخصائص السيكولوجية للمدرس بعموم الصفة، تجعله غير قادر على التعبير الصريح والشفاف عن مشاكله النفسية التي يعانيها جراء ممارسته لمهنته الصعبة، معتقدا أن هذا الاعتراف هو إعلان عن الفشل في مهمته، إلا أن الحقيقة التي ينبغي أن نعيها جميعا ونبوح بها استدراكا لنزيف الوضع، هي أن مهنة التدريس في ظل متغيرات المجتمع والمدرسة المغربيين أصبحت تسبب إجهادا نفسيا وعصبيا هائلا للمدرس، ومخطئ من يعتقد أنه في مأمن من الاضطرابات النفسية والعصبية الناتجة عن ممارسته لهذه المهنة، ومخطئ أكثر من لا يعتقد أننا كمدرسين في حاجة لمتابعة نفسية مؤسساتية دائمة، فنحن إزاء مهنة مجهدة ومتعبة وهذا ما سنقف عند بعض ملامحه في هذا القول.
إن المدرس هو الموظف الوحيد التي تتعرض حياته الشخصية لانتهاك واضح من طرف حياته المهنية، لما تتطلبه من جهد كبير في البحث والإعداد الذهني والكتابي القبلي للدروس والتقويمات، ناهيك عن النزيف النفسي للتصحيح، فوفق إحصاءات رسمية يناهز عدد الساعات الفعلية التي يمارس فيها المدرس أنشطة مهنته الخمسين ساعة أسبوعيا، فما لا يعرفه عامة الناس الذين يحسدون جهلا المدرس على راحته، هو أن العمل الحقيقي للمدرس لا يتوقف بمجرد مغادرته الفصل الدراسي بل يبدأ به، وفي العملية الحسابية البسيطة التالية يظهر الأمر بجلاء، لنأخذ عملية إنجاز فرض محروس واحد لمستوى واحد يبلغ عدد تلاميذه خمسة وأربعون تلميذا، فهو يتطلب ساعتين على الأقل من الإعداد القبلي، خاصة مع التطورات الجديدة التي فرضتها بيداغوجيا الإدماج، وعملية التصحيح قد تتجاوز عشر ساعات لتصحيح هذا القسم، أي بمعدل ربع ساعة للورقة الواحدة، مع العلم أن هناك مواد تتطلب الورقة الواحدة مدة مضاعفة، وإذا كان لهذا المدرس مستويين على الأقل، فإن الزمن يصبح مضاعفا، أي بإضافة اثنتي عشرة ساعة أخرى، وإذا كان هذا المدرس له ثلاثة أقسام عن كل مستوى، هذا على الأقل، لأن أغلب المدرسين في التعليم الثانوي التأهيلي يدرسون ما فوق خمس أقسام، فإن عدد الساعات التي يتطلبها فرض واحد في دورة واحدة تتجاوز الخمسين ساعة دون احتساب ساعات العمل في الفصل، ودون الحديث عن الأنشطة الأخرى التي أضحى المدرسون مجبرين على أدائها، كالحضور في مجالس التدبير والأقسام والمجالس التعليمية واللقاءات التربوية ولقاءات التكوين المستمر..
هذا فقط حديث عن ضغط ساعات العمل والذي يمتد بأضعاف إلى الحياة الشخصية للمدرس، فإذا أضفنا إلى هذا ضغط الاكتظاظ في الفصول والتي بلغت ولله الحمد مع البرنامج الاستعجالي خمسين تلميذا، وضغط الإدارة التي لا تتردد في توجيه استفسارات لمن لا يحضرون المجالس المختلفة للمؤسسة، والتلاميذ المراهقين الذين يعتبرون الفصل فرصة للتعبيرات المختلفة عن مراهقتهم، والمفتشين الذين يطالبونه بجذاذات مختلفة والآباء الذين يحاسبونه على الفاصلة والنقطة، أضف إلى هذا مطالب أخرى تحثه لأن يكون منشطا للحياة المدرسية، ومؤمنا للزمن المدرسي، وكفيلا ومنصتا للتلاميذ، ومتواصلا مع الآباء، فيكفي أن تنضاف لهذه الضغوطات ضغوطات اجتماعية وأسرية أو اقتصادية لنحصل بالضرورة على مدرس ضحية لاضطرابات نفسية كالاكتئاب والقلق والإجهاد النفسي والاستحواذ النفسي والشعور بالاضطهاد. فالمدرس مطالب بالقيام بأعباء وأدوار متعددة تفوق إمكانيات أي فرد، فالجميع يقوم بتقويمه، بدءا من المدير والمفتش والنائب الإقليمي بلوغا للتلاميذ والآباء، ولا أحد من هؤلاء قادر على تفهم قلق المدرس وإجهاده والضغوطات الممارسة عليه، كم هو غريب أن يطلب منه أن يراعي الجوانب النفسية للمتعلم، ولا أحد من هؤلاء يراعي جوانبه النفسية هو.
إن الحاجة ملحة اليوم لأن يوضع معطى الصحة النفسية، سواء من حيث الوقاية أو المتابعة والعلاج، على رأس المطالب النقابية، فما قيمة ترقية إدارية أو زيادة مالية لمدرس إن كانت ستنتهي في خزانة طبيب نفسي وصيدلي؟
المصدر : الأخبار