قضية الصحراء، تلك القضية التي عمّرت طويلا لأسباب متداخلة ومتشعبة، يتداخل فيها الموضوعي بالذاتي، والوطني بالإقليمي والدولي، السياسي بالإقتصادي، تلك القضية التي افتعلت في سياق تاريخي معلوم، من أطراف معروفة ووفق أجندة أضحت مكشوفة. قضية الصحراء إذا استأثرت مؤخرا بحصة الأسد من النقاش العمومي المغربي بعد التصريحات الأخيرة للأمين العام الأممي "بان كي مون" زاعما كونها "محتلّة".
لابد في البداية أن نقف على مسألة مهمة وفاصلة، إنها الأخطاء التي ارتكبتها الدولة في تعاطيها مع قضية الصحراء، نبدأ بأولاها: لقد أبت الدولة ومنذ الشرارة الأولى للصراع المفتعل، إلى عهد قريب جدا، إلا أن تحتكر الملف وتستبعده عن التداول الشعبي، فأضحى الضمير الجمعي يعتبر الملف طردا ملغوما لا يحق الخوض فيه إلا من طرف وزارة الداخلية خصوصا في عهد الوزير "ادريس البصري" وهو ما كرّس استهلاك موقف قد يكون غير موفق.
من جهة أخرى، تعتبر الامتيازات التي تمنح لمواطني هذه المناطق خاصة بطائق الانعاش، والنقل المجاني، وتخفيض أثمان المواد الأساسية، علاوة على التمييز الفاضح للطلبة المنحدرين من هذه المناطق في الجامعات، منحة وسكنا ونقلا خطأ آخر، إلى ذلك تظل المقاربة الريعية التي تنهجها الدولة لصالح المواطنين هناك –وبعض المستفيدين من طينة أخرى- وسياسة المهادنة التي نهجتها الدولة في الأقاليم الجنوبية خطأ آخر، حيث تمّ تكوين جيل من المواطنين هناك، يؤمن بالمنح والامتيازات ويكفر بشيء إسمه الوطن، بل ويعتبر ذلك "حقّا طبيعيا" للمواطن "الصحراوي" الذي "تستنزف" خيرات "وطنه"، وكذا طبقة من "الوحوش الاقتصادية" التي تريد للمشكل أن يستمر.
إضافة إلى ذلك، آن الأوان أن تصارح الدولة المغربية شعبها بالفشل الديبلوماسي الذريع، فرغم تعدد رؤوس وزارة الشؤون الخارجية عبر سنوات طوال، ورغم الكم الهائل من السفريات للديبلوماسيين المغاربة، والتي شملت المشاركة في الملتقيات والندوات واللقاءات هنا وهناك من أجل حشد الدعم الدولي للموقف المغربي، ويجب أن يحاسب –ولو أخلاقيا- من لا يغادر العواصم العالمية عبرالسفر بالطائرة و الاقامة بأفخم الفنادق الدولية فضلا عن التعويضات السخية، هؤلاء الذين يستمتعون وتنسيهم متعتهم المهام الموكولة إليه، يجب الإقرار بأن المصالح الديبلوماسية بشتى تلاوينها قد فشلت في مهمّتها لأسباب ذاتية أكثر ممّا هي موضوعية.
آخر هذه الأخطاء في نظرنا، التجييش والتهييج في صفوف بسطاء المواطنين ، والذي جعل من قضية الصحراء قضية شرعية بمحام فاشل، فجعل ملف الصحراء بين يدي أناس يقدّمون على أنهم جمعويون، لا يتجاوز خطابهم مستوى العاطفة والانفعال، أفضى إلى مواقف في غير صالح المغرب، خاصة أن خصوم الوحدة الترابية المغربية يتقنون التواصل ويتريثون في نقاشاتهم متحينين الأخطاء التي يرتكبها المغاربة. في هذا الإطار، نرى أن مهندسي مليونية الصحراء بالعاصمة ليوم الأحد 13 مارس 2016 أساؤوا إلى شرعية قضية الوحدة الترابية وهم يهجّرون أفواجا من المواطنين البسطاء ممن لا يفقهون شيئا في قضية الصحراء ولا يعرفون ولو شخص "بان كي مون"، مواطنون لا يعرفون ماذا يقولون وماذا يريدون، مواطنون جعلوا منا أضحوكة العالم وهو يعبرون بكل تلقائية ممزوجة بالجهل.
بعد هذا العرض السريع لما نراه ونعتبره أخطاء رسمية في التعاطي مع قضية الصحراء، ننتقل إلى مخاطر هذه الأخطاء وما يمكن أن ينتج عنها من مضاعفات، وهنا نؤكد على مسألة تراجع هبة الدولة في عيون المواطنين خاصة في هذه المناطق، حيث يتمّ استفزاز مؤسسات الدولة بشكل فاضح ولأتفه الأسباب، وأمام تساهل الدولة مع بعض السلوكات أمام صرامة التعليمات وقاعدة gardez le sang froid ، تكون هذه الهبة في مهبّ الريح، والتي تجعل المواطن في مناطق أخرى يفقد الثقة في الدولة وقوّة مؤسساتها، وبالتالي يتراجع الحس الوطني ممّا ينذر لا محالة بتشجيع المساعي "الانفصالية" في مناطق أخرى، هذا عطفا على فقدان ثقة الدول الصديقة والشقيقة في قدرة المغرب على فرض سيادته.
من جهة أخرى، لابدّ أن نشير إلى مجموعة من الخطوات التي يتعيّن الإسراع بالقيام بها في ملفّ الصحراء، في البداية – رغم يقيننا بصعوبته- لا مناص من الإقرار بالهوية الحقيقية للدولة المغربية، هو ما سيفند شرعية إقامة كيان "عروبي" وهمي على أراضي كانت إلى عهد قريب أرضا أمازيغية، ولعل الطوبونيميا والأركيولوجيا والتاريخ تشفع المغرب في هذا الخيار، وهنا سأثير فكرة أساسية، ذلك أنني كسليل لقبائل صنهاجة التي هاجرت من هذه المنطقة خلال القرن الخامس عشر والسادس عشر، أؤمن أنني أحق بهذه البقعة –شمال موريطانيا وأقصى الجنوب المغربي- من شمال أفريقيا من هؤلاء الذين وفدوا في فترة تاريخية معروفة، محدودة ومحدّدة.
يجب على الدولة المغربية إعتماد البعد الأمازيغي للصحراء، وهنا أيضا، أتذكّر يوم حدّثني أحد مواطني مدينة آسا قائلا: "نحن أمازيغ أقحاح، لكن عندما وجدنا الدولة تعتمد اللهجة الحسانية في تحديد "الصحراويين" من غيرهم للاستفادة من الامتيازات، أصبحنا نعلّم أبناءنا هذه اللهجة ونوظفها في الشارع"، فسكان الصحراء في غالبيتهم يعرفون من يكونون وما سكوتهم عمّا يحاك إلا بفعل التهديدات حينا والامتيازات أحيانا.
على الدولة أن تعتمد المقاربة العلمية والموضوعية في تعاطيها مع الملف، أن تسند المهمّة لأناس واعيين وعارفين بتاريخ المغرب وماضيه في إطار ديبلوماسية موازية، جعلها بين أيادي الطبقة المثقفة المعروفة بوطنيتها الصادقة والتي تعي حجم المسؤولية وتعرف كيف ترافع وتدافع بكل قوة ومحاججة تعتمد الدليل والبرهان بعيدا عن خطاب العاطفة.
على الدولة أن تراهن على الصوت الداخلي، ويجب عليها أن تدرك أن حل الصحراء سيأتي من الشعب المغربي بالدرجة الأولى ويجب عليها كذلك أن تكف عن شراء ذمم مرتزقة الصحراء وتنزّل المواطنة الحقة دون تمييز أو تمايز، نحن المغاربة من نقدر قيمة أرضنا بحكم أننا أبناؤها الحقيقيون، ونحن من سيضحي بالغالي والنفيس من أجلها بعيدا عن الارتزاق والحربائية.
إلى ذلك، على الدولة أن تعمل على بلورة تصور وطني متفق بشأنه، ويجب على من يتضامن ويتعاطف ويصوت ل"شرذمة البعير" في الملتقيات الدولية أن يراجع حساباته في أسرع الآجال ويصح عن مواقفه التي يشوبها الغموض والتقية، فأعداء بلادنا الداخليون هم من يشقون طريق الأعداء الخارجيين بالنيابة، ويجب على الدولة أن تكون صارمة مع المصفقين لأطروحة الانفصال وبوجوه مكشوفة.
حل الصحراء ممكن وحتمي، وما ذلك بعسير لو تمّ الكف عن التمييز والريع والاقطاعية، على الدولة إعمال المواطنة واحترام حقوق الانسان وتحقيق عدالة مجالية، ثقافية ولغوية تجعل المواطن المغربيمن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، يحس أنه تحت سماء وطن يعترف به، ومن جهة ثانية، يتعيّن على الدولة الحزم والصرامة في مواجهة الاستفزازات والابتزازات مهما كلّف ذلك.
في الأخير، وبعد تلويح "الانفصاليين" بالحرب، ندرك جيدا أن الحرب مآس ومعاناة، دماء وجثث، ترويع وترهيب وتهجير، من يريد أن نظن أن الحرب حل لمشكل الصحراء فهو واهم، نفضل -ما استطعنا- طرقا أخرى غير القتال لكوننا نملك بدايته ونجهل المآﻻت. بالمقابل، أن تهددنا حفنة ممّن وفد بالأمس القريب، وتبتز الدولة منذ أكثر من أربعة عقود باسم حق تقرير المصير وتصفية الاستعمار وغيرها من اﻷسطوانات المشروخة، يجعلنا نقبل الحرب -على مضض- لتصفية المستفيدين المستفزين المبتزين الانفصاليين. فكلنا جنود لتحرير أرضنا من هذه الكائنات - الدمى التي تحركها قوى خارجية باسم القومية البائدة والكراكيز التي تحلم ب"جمهورية عربية" على أرض "تامازغا" الطاهرة.