سيدي محمد رشيد حاميدي - الرشيدية / جديد انفو
تُعدّ المحاماة تاريخيا من أسمى المهن القانونية وأكثرها ارتباطا بفكرة العدالة وسيادة القانون وتقدير الشرعية . فهي ليست مجرد نشاط مهني يهدف إلى الدفاع عن مصالح الأفراد بمقاربات ميكانيكية جافة ، بل ، بالأحرى ، رسالة حضارية إنسانية مجتمعية تساهم في حماية الحقوق والحريات وإقامة العدل الذي هو أساس الحكم ، عبر السعي إلى ترسيخ مبدأ المساواة أمام القانون ، وضمان حسن سير العدالة داخل المجتمع تكريسا لمشترك إنساني قوامه الإنصاف والعدل .
يعتبر الحق في الدفاع من داخل محراب المحاماة من الحقوق الأساس التي كرّستها الدساتير والمواثيق الدولية ، ولا يمكن ممارسة هذا الحق على الوجه الأمثل دون وجود محام مستقل وكفء يمارس أدواره الرسالية في إقامة العدل ونقض الظلم . فالمحامي هو صوت المتقاضي أمام القضاء ، يشرح موقفه القانوني ، ويؤطر مطالبه في إطار قانوني سليم ، ويسهر على احترام الإجراءات وضمان المحاكمة العادلة على لبنات حسن استتزال المتون القانونية وفق خطوط الأمن القضائي الذي هو صمام أمان بناء مجتمع متمدن يدير خلافاته على أساس الأمن القانوني كما تضمنه استقلالية القاعدة القانونية وتجردها وامتثالها لجودة قيم العدل والإنصاف والمساواة أمام القانون . ولهذا وجب ضمان استقلالية مهنة المحاماة وتوقير نبل أدوارها في تحقيق العدالة لصالح المجتمع . وأعتبر أن استقلال مهنة المحاماة شرط جوهري لتحقيق العدالة ، ذلك أن المحامي المستقل ، غير الخاضع لأي ضغط سياسي أو إداري أو اقتصادي ؛ يكون أكثر قدرة على الدفاع عن موكله بشجاعة وموضوعية فيبدع ويستلهم قصد بناء مقاربات تنشد إحقاق الحقوق ودحض التجاوزات ، خاصة في القضايا الحساسة المرتبطة بالحقوق والحريات حيث حرية الإنسان فوق كل اعتبار . وعليه إن استقلالية المحاماة يعدّ توازنا ضروريا مع استقلال القضاء ، بما يضمن عدالة حقيقية لا شكلية ؛ وهو ما لا يسمح بأي حال من الأحوال إخضاه مهنة الدفاع لتوازنات الرعب كما تصنعها خلفيات الساسة في خضم تسخير المؤسسة للتشريعية لتلجيم الصوت الذي يصدح لصالح الأمن القضائي من مدخل الأمن القانوني عبر مشروعية مهنة الدفاع غير القابلة للتقييد التعسفي وللتحكم الناعم باسم الإصلاح . إن المحامي شريك استراتيجي في إرساء سيادة القانون وضمان سيولة معابر العدالة ، لهذا لا يقتصر دوره على الترافع أمام القضاء ، بل يمتد إلى الإسهام في نشر الثقافة القانونية داخل المجتمع ، وتوعية المواطنين بحقوقهم وواجباتهم ، والمشاركة في النقاش العمومي حول إصلاح القوانين وتطوير التشريعات وهي مهام حضارية تنتفض ضد كل محاولات التبخيس الممنهج باسم النزعات الإصلاحية بنفَس بيروقراطي تحكمي يخدم أجندات معاداة استقلالية مهمة الدفاع . وبهذا المعنى ، يُعدّ المحامي فاعلا أساس في بناء دولة القانون والمؤسسات . إن مهنة المحاماة تتجاوز حماية الحقوق والحريات نحو حماية المجتمع من نفسه ومن كل أشكال الإنجراف نحو عدالة الشارع . لهذا تلعب دورا محوريا في حماية حقوق الإنسان ، سواء تعلق الأمر بالحقوق المدنية أو السياسية أو الاقتصادية والاجتماعية . فالمحامي يدافع عن المظلومين ، ويقف في وجه التعسف ، ويساهم في مساءلة السلطة حين تنتهك القانون ؛ وبالتالي يشارك في بناء دولة المؤسسات من مدخل القانون لصالح العدل والإنصاف . لذلك ارتبطت المحاماة تاريخيا بالنضال من أجل الحريات والعدالة الاجتماعية كمهام سامية تتجاوز سقف النظرة السطحية التي تختزل مهمة الدفاع من لدن صناع التخريب الناعم لمكتسبات المهنة باسم الإرتدادت الإصلاحية وفق أجندات التحكم السياسوي الذي يستثمر قدسية محراب البرلمان لفرملة نبل الرسالة . لهذا تقوم المحاماة على قيم أخلاقية راسخة منها النزاهة ، والإستقلالية ، والسر المهني ، واحترام القانون ، والدفاع الشريف عن الحق و نسف كل أشكال الظلم عبر حسن الإمتثال للقانون .
تعدّ مهنة المحاماة إحدى الدعائم الإستراتيجة لإقامة العدالة وصون الحقوق والحريات ، لما تضطلع به من دور محوري في ضمان حق الدفاع وتحقيق مبدأ المحاكمة العادلة ، كما هو مقرر دستوريا ومكرّس في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان المنصوص على سموها في تصدير الوثيقة الدستورية لعام 2011 . ومن ثمّ ، فإن حماية هذه المهنة من كل أشكال التحكم والتعسف تكتسي طابعا مؤسساتيا لا يقل أهمية عن حماية القضاء ذاته . إن استقلال مهنة المحاماة ليس امتيازا مهنيا ، بل هو ضمانة دستورية للمتقاضين والمجتمع ككل ، إذ لا يمكن للمحامي أن يؤدي رسالته في الدفاع عن الحقوق والحريات ما لم يُمارس مهامه في إطار من الإستقلال والحرية ، بعيدا عن الضغوط الإدارية أو التدخلات السلطوية أو القيود غير المشروعة التي تمس جوهر المهنة ورحابة الدفاع . فكل مساس باستقلال المحامي يُفضي بالضرورة إلى إضعاف حق الدفاع ، ويقوّض الثقة في منظومة العدالة . ويظهر التحكم والتعسف في مهنة المحاماة من خلال محاولات التضييق على حرية التعبير المهني ، أو توسيع دائرة المتابعات التأديبية والجنائية خارج الضمانات القانونية ، أو إفراغ التنظيم المهني من استقلاليته ، بما يجعله خاضعا لمنطق الوصاية بدل منطق التدبير الذاتي الديمقراطي كما تعرفه التجارب الديموقراطية المقارنة . وهي ممارسات تتعارض مع المبادئ الأساس لدور المحامين المعتمدة من لدن الأمم المتحدة ، والتي تشدد على ضرورة تمكين المحامين من أداء مهامهم دون ترهيب أو مضايقة أو تدخل غير مبرر . وعليه ، فإن حماية مهنة المحاماة من التحكم والتعسف باسم الإصلاح تقتضي تعزيز الإطار القانوني الضامن حقيقة لاستقلالها ، واحترام التنظيم المهني باعتباره شريكا في تحقيق العدالة ، فضلا عن ترسيخ ثقافة قانونية تعتبر المحامي فاعلا أساسيا في دولة الحق والقانون ، لا مجرد تابع أو أداة إجرائية تؤثت فضاءات تنزيل القانون . فاستقلال المحاماة في نظري هو في جوهره استقلال قائم للعدالة ، وأي إخلال به يُعد مساسا مباشرا بأسس الدولة القانونية .
أستنتج مبدئيا إلى أن حماية مهنة المحاماة من كل أشكال التقييد والتحكم تمثل ضرورة دستورية وقانونية وحقوقية بمرجعيات قانونية دولية لا تقبل التأويل ، باعتبارها الضمانة الجوهرية لممارسة حق الدفاع وتحقيق المحاكمة العادلة . فكل مساس باستقلال المحاماة ، سواء عبر قيود تشريعية غير متناسبة أو ممارسات إدارية أو تأديبية ذات طابع تحكمي ، يشكل إخلالا خطيرا بالتوازن المفترض داخل منظومة العدالة ، ويؤدي إلى إفراغ حق الدفاع من مضمونه الفعلي . وعليه ، فإن صون مهنة المحاماة يقتضي تحصين استقلالها الوظيفي والمؤسساتي ، واحترام تنظيمها المهني المستقل ، وتمكينها من أداء رسالتها بحرية ومسؤولية وعلى نقيض كل ذلك إن أي تقييد غير مشروع لها هو مساس مباشر وصريح بالعدالة وبأسس دولة الحق والقانون .
إن المقتضيات التي جاء بها مشروع القانون رقم 66.23 والتي عبّر المحامون عن رفضهم لها ، لا تثير فقط إشكالات دستورية متعلقة بتقييد استقلال مهنة المحاماة والمس بحق الدفاع ، بل أسهمت أيضا في خلق حالة من الاحتقان غير المسبوق داخل وسط المحامين وفي تأجيج وضعية اللاثقة ، نتيجة للشعور بالإقصاء وعدم إشراك الهيئات المهنية في إعداد تشريع يمس جوهر رسالتهم الدستورية وينسف مباشرة كل المكتسبات . وهذا الإحتقان لا يمكن فصله عن ما انطوى عليه المشروع مثار الرفض الجماعي من مساس مكشوف بالتوازن الضروري لمنظومة العدالة ، ومن تضييق غير متناسب على ممارسة مهنة الدفاع ، الأمر الذي انعكس سلبا على الثقة المتبادلة بين مكونات العدالة من خلال الإخلال الفج بأحد أهم أركانها وهي مهنة الدفاع . وعليه فان العمل بمقتضيات من هذا القبيل ومحاولة تمريرها تعسفيا بتسلط الإستقواء الأغلبي في البرلمان لا يهدد فقط استقرار المهنة ، بل يمس بصورة مباشرة بالعدالة ذاتها وبجوهر الأمن القضائي ، ويتعارض مع متطلبات دولة الحق والقانون ومبادئ التشريع التشاركي .
وفي الختام ، ومن موقعي داخل مهنة الدفاع وكناشط حقوقي ، أعتبر أن إخضاع مؤسسة المحاماة لأي شكل من أشكال الوصاية أو التبعية أو التحجير باسم الإصلاح ، سواء لسلطة النيابة العامة أو لوزارة العمل ، يُعدّ انتهاكا صريحا لمبدأ استقلاله…
|
|