خالد فاتيحي
كم هو مؤلم جدا أن يجور عليك النسيان قبل الزمان، وأن تتحالف ضدك قساوة القدر والإنسان، وأن تتحول إلى ضحية بمنطق الواقع الذي يأبى الارتفاع وليس بمنطق ظلم التاريخ الذي لن يطويه النسيان. ذاك هو حال الجنوب الشرقي الذي بات قدره أن يبكي همّ الأحزان، ويرثي خراب البنيان ضجرا من واقع مزرٍ عشناه ويعيشه أبناء هذه الهوامش، عنوانه التهميش والحرمان.
لقدت أصبحت هوامش الجنوب الشرقي من فرط التهميش والتفقير، لا تكاد تذكر إلا مرادفة للفواجع والأحزان والكوارث التي تزحف على الإنسان قبل العمران، مثلما ما وقع في السيول الأخيرة التي حولت مئات المنازل إلى أطلال. ومع ذلك -ولا ندري إن كان هذا من سداجتهم أو من مكارمهم- يأبى أبناء هذه الربوع المنسية والمقهورة، إلا التمسك بالأرض حتى آخر رمق، رافضين الهروب من جحيم القساوة المستدامة، ولسان حالهم يقول: “بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام”.
فسجلّ الفواجع والكوارث التي كانت المنطقة مسرحا يختزن بين دفتيه كثيرا من الوقائع المأساوية التي نجمت عنها خسائر في الأرواح والممتلكات، ليس أقلّها ألماً وقساوة، فاجعة تشكا صيف عام 2012، التي راح ضحيتها 48 شخصا، مرورا بفاجعة منطقة “أمسيصي” قرب تنغير، التي دفع ثمنها 50 تلميذا كانوا في طريقهم إلى فصول الدراسة، وصولا إلى فاجعة طانطان التي ظل تحقيقها معلقا دون نتائج، وغيرها من الأحداث والكوارث التي كانت المنطقة ضحية لها، دون أن ننسى الاستنزاف التي تتعرض له خيرات هذه الربوع منذ عقود دون مقابل، فضلا عن ويلات عصابات الكنوز التي تخطف الأطفال دون أن يشبوا عن الطوق.
لقد جاءت الأمطار الطوفانية الأخيرة، لا لتشكف فقط عن هشاشة البنيات الطرقية التي أُهدرت لأجلها الملايير قبل أن ينتفع بها الإنسان الدرعي، بل لتعري تجاوزات تنتهك حق كرامة المواطن المغربي في هذه المناطق التي طالها الإهمال والنسيان منذ عقود طويلة، دون أن تلتفت الدولة إلى عظمة تضحيات أبنائها وفاء للوطن الذي يبادل حبهم بالجفاء. إن أسوأ ما يؤلم أبناء الهامش الذي أغرق في بحر النسيان قبل طوفان الفيضان، هي مظاهر التحقير والتجاهل تجاه جفاف التنمية الذي يزحف على هذه الربوع المنتفع بخيراتها مع إصرار على النكران.
اليوم أبناء الجنوب الشرقي لا يتسولون كرامات ولا تضامنا مغشوشا ولا ينتظرون قوافل المساعدات وهم المعروفون بكرم الضيافة والوفادة، بقدر ما يرجون إنصافا بعدما تكالبت عليهم قساوة التاريخ والجغرافيا.. أبناء الجنوب الشرقي يتساءلون اليوم بكثير من الريبة والغرابة لماذا تستثنى منطقتهم من مشاريع التنمية، ولماذا تتجاهلم المخططات الوزارية، وكيف لا ينالون حظهم من الثروة الوطنية التي تستحوذ عليها الجهات المحظوظة؟
ما أجمل مشاهد الوديان التي أعادت الأمطار الحياة إلى مجاريها ورسمت البسمة على وجوه المهمشين العابسة، بعد سبع سنوات عجاف من الجفاف، لكن ما أقسى مظاهر التمهيش والنسيان التي جارت على الأهالي بهذه الربوع، ما دفع العديد منهم إلى الهجرة القسرية بينما اختار البعض الآخر مقاومة شظف العيش فيما يشبه سجون الإقامة الجبرية، حيث لا مشاريع تستجيب لحاجيات المواطنين ولا تنمية تحفظ كرامتهم.
تهميش الجنوب الشرقي ليس كمثله شيء، فهو تهميش يخرص عنه المسؤولون كما المنتخبون وتتجاهله الدكاكين السياسية التي تغيب دهرا وتظهر قهرا لتتاهفت على أصواته الانتخابية، فالبنيات التحتية المنعدمة والمؤسسات الخدماتية و الصحية، هي عنوان للمعاناة المستدامة للساكنة، على أمل أن يشملها مخطط تنموي قد يأتي وقد لا يأتي، يُخفف عنها بعضا من وطأة قساوة الطبيعة والبشر.
آن الأوان أن يعود المسؤولون عن تهميش زاكورة وما جاورها -إن بقي لديهم مثقال ذرة من المسؤولية- إلى جادة الصواب ويحكموا ضمائرهم التي ماتت ودخلت في غيبوبة مقصودة، لرفع التهميش والحيف والإقصاء عن الجنوب الشرقي. وبقدر صبر وجلد “الناس ديال زاكورة وتنغير وطاطا” وغيرها من الذين بلغ اليأس منهم مبلغه، نقول إنه لم يعد مقبولا أن تستمر عقوبة عقود من الحرمان، بحق أبناء وبنات الجنوب الشرقي، ويتعين على الدولة ألا تجعلنا ننتظر فواجع السيول والفيضانات، حتى نتذكر أن هناك بقاعا من الوطن تعاني جفاف التنمية في صمت، وتدفع فاتورة فشل المسؤولين على جميع المستويات ممن أداروا ظهرهم للجنوب الشرقي دون أن يرف لهم جفن.
المصدر: العمق المغربي