مصطفى ملو

بدأت الشمس تميل إلى المغيب عندما أخذ عمي لحو يذرع أرضه جيئة و ذهابا وهو في حالة استنفار قصوى، ما يوحي أن في الأمر سرا ما.

 مع بداية إرخاء الليل سدوله على العالم، تراءت من بعيدة آلة ضخمة تمشي الهوينى باتجاه حقله الجرد كأنها عقرب سوداء تتصيد فريستها بحذر شديد.

لم يكن الأمر يتعلق بغير حفارة آبار ستشرع تحت جنح الظلام بعيدا عن أعين السلطات والفضوليين و”أصحاب العين أو أيت تيط” في تعميق بئره التي بالكاد تروي عطش زوجي الحمام اللذين اتخذاها مسكنا لهما.

قبل الشروع في عملية الحفر كان عمي لحو قد استقدم حمو بوتغروشت المختص في التنقيب عن المياه الجوفية والخبير في هذا المجال في المنطقة كلها حتى إنه لا يجد وقتا لتلبية كل الطلبات ولا يستجيب للكثير منها إلا بعد وساطات وحجوزات مسبقة.

حمو بوتغروشت نسبة إلى غصن الزيتون على شكل Y الذي يستعلمه في البحث عن الماء أو حمو الردار كما يلقبه الأهالي لما يعتقدون من امتلاكه لقدرات خارقة على سبر أغوار الأرض، أكد لعمي لحو بعلم اليقين أن أرضه غنية بالماء، لا بل إنه حدد له عمقها في 120 مترا وحتى كميتها وعذوبتها بعدما دفع له مبلغ ألف درهم لولا وساطة أحد معارفه لكان مضاعفا.

بعد ساعة من وصولها، أصبحت الحفارة التي تم تثبيتها وإعدادها من طرف ثلاثة عمال بملابس متسخة تملأها الزيوت ووجوه سوداء مغبرة أشبه بملامح عمال مناجم الفحم جاهزة، فطفقت تمخر عباب الطبقات الصخرية باحثة عن أعز ما يطلب في تلك البلاد نواحي تازارين؛ إنه الماء!

ضغط مسعود وهو سوري من أصل كردي على زر في مؤخرة الحفارة فدارت بسرعة فائقة معلنة بداية الغوص في أعماق الأرض، بينما تكلف يدير وموحند وهما من أبناء المنطقة بشحنها بأعمدة حديدية ضخمة طول الواحدة منها ثلاثة أمتار، كلما ابتلعت الأرض واحدة عبؤوا الآلة بأخرى تماما كما يفعل الجندي مع قاذفة الصواريخ.

توالت الأمتار بسرعة، تسعة أمتار، 18، 27…لا جديد تحت الأرض؛ يجيب مسعود كلما سأله عمي لحو الذي أصبح في حيص بيص، مصفر الوجه، يضرب الأخماس بالأسداس كلما رأى الأرض تبتلع عمودا دون أن تلحظ عيناه الغائرتين وسط وجه مجعد أضنته السنون آثار ماء.

بين الفينة وأختها يراقب التراب الأزرق الداكن الذي تلفظه الحفارة، فيحرك شفتيه التي لا يفهم من حركتها أ دعاء هو أم سب وشتم أم ندب حظ…؟!!

يصرخ مسعود حتى يسمعه عمي لحو أمام ضجيج الحفارة؛

- تجاوزنا السبعين مترا.

- سبعون مترا، سبعون مترا، سبعون مترا… ظل يردد كالمجنون الذي فقد صوابه أو كأنه يحصي المتر مقابل الدرهم، عفوا الأمتار لقاء آلاف الدراهم التي سيدفعها مقابلا لذلك.

مع ساعات الفجر الأولى انتهت الأشغال في بئر عمي لحو التي وصل عمقها إلى 120 مترا، مئة وعشرون مترا بالتمام والكمال دون قطرة ماء !

مئة وعشرون مترا سيدفع عمي لحو في ليلة واحدة ثلاثين ألف درهما مقابلا لها.

هذه هي البئر الثالثة التي يغامر بحفرها مستثمرا تحويلات ابنه يوسف المقيم ببلجيكا الذي ينظر نظرة الميت إلى غساله إلى رزقه وثمرة تعبه وغربته بعيدا عن الوطن، يشهد على أن أمواله تذهب هباء ومع ذلك فهو لا يستطيع ان يعصي لوالده أمرا مهما كان مخطئا، لأنه يؤمن في قرارة نفسه أن ذلك سيجلب عليه اللعنة والنحس والسخط، لذلك فهو يذعن لطلباته رغم تكلفتها الباهظة.

في مقابل يوسف المطيع، لا يفوت موحى الذي يتابع دراسته الجامعية في كلية العلوم بأكادير شعبة الجيولوجيا أي فرصة للثورة على قرارات والده، منبها إياه في الكثير من المرات إلى عدم جدواها ومحاولا أن يفهمه أنه من المستحيل أن يظفر بنقطة ماء في صحراء قاحلة لا تساقطات ولا مياه سطحية فيها، وهو ما يعتبره عمي لحو شركا بالله وتدخلا في علم الغيب الذي هو من اختصاصه سبحانه وتعالى.

عمي لحو لا يفهم دروس ومحاضرات ابنه يوسف التي يلقيها على مسامعه كل ما جاء في عطلة لزيارة قريته، من قبيل أن الفرشة الباطنية في تلك البلاد ضعيفة إن لم نقل غير قابلة للتجدد وأن الحل هو في تشييد السدود في كل الفجاج والخوانق لعل الفرشة تنتعش وتعود لها الحياة في منطقة لا تعرف الأمطار إلا مرة أو مرتين في السنة.

عمي لحو لا يفهم ولا يريد أن يفهم ويستوعب الدرس من محاولاته السابقة ومن جيرانه الذين حولوا حقولهم إلى ما يشبه جحور فئران؛ بين ثقب وثقب ثقب بعمق يتجاوز أحيانا المئتي مترا بلا جدوى !

هو لا يفهم أن لا علاقة علمية بين غصن زيتون على شكل Y ووجود الماء، لذلك فهو لم يواجه بوتغروشت ولم يتهمه بالشرك والتدخل في علم الغيب عندما أخبره بوجود الماء، بل وأكد له جودته ووفرته وعمقه كما واجه ابنه موحى الذي برهن له علميا أنه لا مياه جوفية في بلد لا مياه سطحية فيها.

لا يريد أن يهضم أن ما يقوله الناس عن حمو بوتغروشت وما يزعمون أنها قدرات خارقة يمتلكها في الكشف عن المياه الباطنية مجرد تخاريف سبق أن روجوها عن الذي عين له المكان الذي حفر فيه البئر الأولى ونفس القدرات قالوا إن الذي حدد له موضع البئر الثانية يتمتع بها ومع ذلك لا هو وجد الماء ولا هو احتفظ بماله في جيبه.

لا يريد أن يفهم كلام ابنه موحى الذي يصنفه ضمن أحاديث الملحدين وعلم الإلحاد الذي لا تعلمهم الجماعة(هكذا ينطق الجامعة) سواه.

هو لا يفهم ولا يريد أن يفهم أن ملايين ابنه يوسف يمكن أن يوظفها في مشاريع أخرى، مثلا أن يشتري بها منزلا في مدينة من المدن ويرتاح من عذاب الماء عوض تبذيرها في تحويل بيداء قاحلة إلى غربال.

هو يريد الماء، يريد الماء يا عباد الله، ماء الشرب أولا، يريد الماء والباقي بالنسبة له خرافات !!