بحلول الثالث عشر من يناير في التقويم الميلادي، يخلد سكان شمال إفريقيا حدثا متجذرا في التاريخ، إنه حدث رأس السنة الأمازيغية التي يحتفل بها العديد منا دون إدراك ولا إحاطة بدلالاته الرمزية والتاريخية، فهم هذا الحدث الذي يعد مفخرة سكان تامازغا بدون استثناء أصبح ضرورة ملحة في ظل تصاعد الوعي الهوياتي لدى الأمازيغ(*)، ثم في ظل التجاهل الرسمي للحدث والمحاولات اليائسة لبعض الأصوات النشاز في التشكيك في تاريخانية ومرجعية الاحتفال.
إذا وبحلول الثالث عشر من يناير الميلادي هذه السنة، يدشن الأمازيغ عبر شمال إفريقيا سنتهم الرابعة والستين بعد الألفين وتسعمئة (2964)، وجدير بالذكر أن الاحتفال بهذه السنة لا يقتصر على الأمازيغ الناطقين، بل يشتركون فيه مع أغيارهم من غير الناطقين، ولو عدنا إلى “يومية بوعياد”، التي تعتبر مرجع المغاربة على وجه الخصوص في تحديد “المنازل” المناخية لكان التعريف الذي تقدمه للمناسبة خير معين لهؤلاء المشككين. مما يدل مرة أخرى أن الهوية التي يحاول الكثيرون تضليل المغاربة بشأنها أمازيغية تعلو عن كل الانتماءات الأخرى الإثنية والدينية واللسانية واللونية.
صحيح أن التسمية محط اختلاف؛ وهو اختلاف مرده إلى كون الحدث يضرب بجذوره العميقة في التاريخ من جهة أولى، ثم لكون مختلف مظاهر الخصوصية الأمازيغية تعرضت للطمس والاقبار بل والتنكر طوال قرون عديدة من جهة ثانية، ولا يمكن أن يشكل التأريخ الأمازيغي استثناء في هذا الباب. هكذا إذا نجد من يسميه ليلة "الناير" أو يْنّاير، في حين نجد من يعتبره رأس السنة الفلاحية، إلى جانب آخرين يطلقون عليه "ئض - سكّاس" أو "ئغف ن ؤسكاس" أو رأس السنة دون أية إشارة إلى السنة المقصودة و نجد البعض الآخر يسميه "حاكوزة"، هذا الاختلاف في التسمية يقابله شبه اتفاق على طبيعة الاحتفال وتشابه بين في الطقوس و الوصفات المعدة لهذا الحدث.
في الثالث عشر من يناير الميلادي إذا من كل سنة، تحتفل العديد من الأسر في ربوع شمال إفريقيا بحلول السنة الأمازيغية الجديدة كل حسب طقوسه التي ورثها عن أسلافه و إن كان كثير من الناس يجهلون تاريخ هذا الحدث و دلالاته الرمزية والانتربولوجية والحضارية.
ان السنة الأمازيغية إذا كغيرها من التقويمات تقويم حضاري مؤسس على حدث تاريخي قديم، احتفظ عليه الأمازيغ كغيرهم من الشعوب رغم تبنيهم للتقويم الميلادي، وتعود بدايته إلى سنة 950 قبل الميلاد الذي يؤرخ لحدث عظيم حينما استطاع الأمازيغ دخول مصر الفرعونية بعد الانتصار عليها في معركة دارت وقائعها على ضفاف نهر النيل، وتولى بعدها الأمازيغ سدة حكم مصر الفرعونية من خلال الأسر الثانية والعشرين، الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين، وأسس شيشنق إذا الأسرة الثانية والعشرين والتي امتد حكمها من 950 ق.م إلى 817 ق.م، حيث تعاقب على حكم مصر تسعة ملوك ليبيين أو أمازيغ هم شيشنق الأول (الذي حكم واحدا وعشرين سنة، وهو الذي وحد مصر، وضم إليها كلا من فلسطين وسوريا، ومن أهم الآثار التاريخية المصرية التي تدل على الأسر الفرعونية الأمازيغية: قوس النصر في مدينة الكرنك وقبر الأسرة الأمازيغية المالكة الثانية والعشرين بمدينة تالبسطة)، أوسركون الأول، تاكلوت الأول، أوسركون الثاني، شيشنق الثاني، تاكلوت الثاني، شيشنق الثالث، باماي، وشيشنق الرابع، تلتها الأسرة الثالثة والعشرون من 817 ق.م إلى 730 ق.م بملوكها الستة: بادي باست، شيشنق الخامس، أوسركون الثالث، تاكلوت الثالث، أمنرود أوسركون الرابع، ليختم حكم الأمازيغ لمصر بالأسرة الفرعونية الرابعة والعشرين التي امتد حكمها من 730 ق.م إلى 715 ق.م بملكين فقط هما تافناخت واح كارع أو بوكوريوس الإغريق.
وللإشارة فالسنة الفلاحية التي دأب الناس على سماعها وترديدها لا تعدو أن تكون نتيجة أفعال قصدية – تبناها الضمير الجمعي عن غير قصد - تعمدت تفادي الإشارة إلى كون هذا التأريخ أمازيغيا بشكل صريح وإن كانت لا تتعارض مع فلسفة الاحتفال الذي دشنه الأمازيغ بعد دخولهم مصر أو "مّ ئزرا" كما يطلق عليها القدماء والتي تعني ذات الصخور الضخمة في إشارة إلى الجلاميد التي بنيت به الأهرام - حيث عبروا ويعبرون من خلال تقليدهم السنوي هذا على تمسكهم بالأرض المعطاء والاعتراف بفضلها وخيراتها. ومن ثم فالاحتفال هو فلاحي بالدرجة الأولى أكثر مما هو سياسي بمرور السنوات، إنه تعبير شعبي عن امتنان الإنسان للأم الأرض واعتراف بعطاياها ومن ثم يعمد الناس إلى إعداد وجبات بخضر الأرض المتنوعة في إشارة واضحة إلى الترابط العفوي الطبيعي بين الإنسان وأمه الأرض.
ففي مختلف ربوع الجنوب الشرقي المغربي مثلا – المنطقة التي أنحدر منها - يتم إعداد طبق خاص للمناسبة عبارة عن كسكس (سكسو أو أفتّال) بعديد الخضر والقطاني مما يفسر التسمية التي نسمعها "سبع خضار" في إشارة إلى تنوع الخضر في طبق هذه المناسبة، وتوضع نواة التمرة "ئغس" في الطعام أو حبة لوز كما يفضل البعض مؤخرا. ومن يجد هذه النواة أو حبة اللوز تسند إليه مفاتيح "المخزن" ويعتبر شخصا "مباركا" طيلة تلك السنة. الاحتفال في شمال إفريقيا يتم بطرق متنوعة من حيث الطبق المعد حيث نجد "ئرْكْمْنْ" أو "ؤرْكيمْنْ" أي أطباق القمح مع الفول الجاف المطبوخين على شكل حساء، وهناك من يحضر طبقا من "المحمصة" مع السمن مع الإشارة إلى تبني البعض تقديم أطباق الحلوى والدجاج وغيرهما مؤخرا.
وهكذا نجد أن السنة الأمازيغية تجمع بين الطابع السياسي للحدث متمثلا في الانتصار والطابع الاحتفالي بالأرض كعروس ورمز للعطاء والخصوبة. والتقويم الأمازيغي تقويم اعتمده الأمازيغ منذ أقدم العصور. وهو مبني على النظام الشمسي، ويعتبر رأس "السنة الفلاحية" رأسا للسنة الأمازيغية. صحيح أن الأحداث التاريخية السياسية المرتبطة بالشعب الأمازيغي لم تدون بهدا التقويم بل ظل لصيقا بالجانب الاحتفالي وذلك لأسباب معروفة نذكر منها:
+ كون تامازغا (شمال إفريقيا) التي هي موطن الشعب الأمازيغي منطقة جيواستراتيجية ظلت محط أطماع عدد من الشعوب المجاورة ومن ثم فإنه لم يهنأ بالراحة في موطنه بل ظل دائما مدافعا عن حمى موطنه ولم يدون لغته ويطور خط كتابته – إلا لماما - ولم يعتمد التقويم الأمازيغي و... بل ظل اعتمد لغة الغير وخطه وتقويمه لأنه لم يحظ باستقلال تام إلا في فترات معدودة.
+ الجانب الاحتفالي (الفنون) أكثر عناصر الثقافة الأربعة مقاومة واستمرارا فهي لصيقة بالذاكرة الجمعية المشتركة ومن ثم يصعب استئصالها رغم كل محاولات الطمس والاستلاب.
+ انحسار وعي الأمازيغ قديما بشقه التقليدي عكس أمازيغ اليوم – أقصد الحاملين للفكر النضالي – المتمتعين بالوعي العصري المتشبع بالقيم الإنسانية والمنظومة الحقوقية والمغترف من ينابيع العلوم الإنسانية والمدافع عن الخصوصية الثقافية الرافضة لكل عمليات التغريب وطمس الهوية الحقيقية.
إن تخليد السنة الامازيغية ليس وليد اليوم ولا الأمس القريب، إنه تخليد يجسد حقيقة هوية شمال إفريقيا، فنجد الناس يخلدونها شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، ناطقين وغير ناطقين...
إنها الحقيقة التي لا يستطيع جاحد نكرانها، ويبقى من واجبنا أن نعرف غيرنا بحيثيات وفلسفة وتاريخ هذا التخليد الذي يفرض نفسه على كل بيت مغاربي من واحة "سيوا" بمصر إلى جزر تينيريفي (الكاناري).
إن الدولة المغربية ومعها كل الدول المغاربية أمام خيار وحيد يقضي بترسيم هذا التخليد والاعتراف به رسميا بوصفه عيدا قوميا يوحد شمال إفريقيا ويبين للعالم تجذر الحضارة الأمازيغية في تراب هذه الربوع. إن الدعوة موجهة مرة أخرى وبإلحاح إلى المسؤولين في المغرب وخارجه إلى اعتماد رأس السنة الإمازيغية عيدا قوميا كما تطالب بذلك كل الفعاليات الأمازيغية اعترافا منا بجميل الأجداد وبمجدهم وحفظا للذاكرة الجماعية من الاندثار والطمس الذي طالها لمدة غير يسيرة.
فليتأكد الجميع أن الأمازيغية ومقوماتها تيار جارف أقوى من كل الخندقات المتهالكة والتوظيفات السياسية الضيقة والإيديولوجيات المستوردة شرقا وغربا. نتمنى لكم سنة أمازيغية سعيدة مباركة مليئة بكل المسرات والأفراح.
(*): نقصد بالأمازيغ ساكنة تامازغا أو شمال أفريقيا بعيدا عن كل خندقة إثنية، عقدية أو لغوية.