بقلم: لحسن أمقران.
في خطوة قد تزيد من تأزيم أوضاع اللغة الأمازيغية وتجهز على ما تبقى منها، وتنذر بتوسيع الهوة بين الفاعلين الأمازيغ، تعالت أصوات في الآونة الأخيرة داعية إلى تبني المتغيرة "الريفية" (variante rifaine) في الشمال المغربي ورفض ما أسمته هذه الأصوات "إعداما" للخصوصية الريفية باسم اللغة المعيارية، وهو موقف يستدعي منا باعتبارنا فاعلين إعادة طرحه بالقدر الممكن من الموضوعية التي تجعل كل الأطياف الأمازيغية تدرك معركتها الحقيقية والتحديات التي تنتظر هذا الاختيار أو ذاك، وتتجاوز الصراعات والخصومات الداخلية.
قبل الانتقال إلى الموضوع، نرى من المهمّ التذكير أننا لا ننتمي جغرافيا لا إلى الشمال (مصدر هذه الأصوات) ولا إلى الجنوب (منفّذ الإعدام المفترض)، فصوتنا من الجنوب الشرقي الذي لا يمكن أن ينفي أحد جهوده من أجل "وحدة" الأمازيغ، ولا يعقل أن يفهم من مقالنا كوننا ننساق وراء هذا التوجّه الشعوبي أو نناصر ذاك الطرح الشعبوي، بل نحاول -قدر الامكان - الانتصار لقضيتنا بشكل شمولي يغلّب مصلحة الأمازيغية بوصفها نسقا بنيويا متشعبا، ويتجاوز التجاذبات والسجالات التي نجدها في الأخير طبيعية وصحية ولا تمسّ عمق القضية ما دامت تترفّع عن الإساءات اللفظية والتخوينات الجاهزة.
لا بد من التنبيه أن التفجير من الداخل هو الذي من شأنه القضاء على طموح الأمازيغ في إنصاف الأمازيغية وإحقاق حقوقهم، فمهما كان خبث التحاملات وشراسة التربصات وعنف الهجمات التي تأتي من الخارج، ستظل الأمازيغية تلك الصخرة التي تنتحر أمام صلابتها أمواج أعدائها المعلومين والمندسّين، إلا أن الثقوب التي قد تصيبها من الداخل تنذر بإنهاء مناعة هذه القضية بالوجه الذي سيسهّل مأمورية تلك الكائنات الطفيلية والانتهازية التي تتحين فرصة الانقضاض عليها.
منذ إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، تردّد احتكار "صوت الجنوب" للمؤسسة، وهو نتيجة طبيعية - وبكل تجرّد - للمجهودات التي بذلها أبناء الجنوب قبل غيرهم، رغم ضرورة الإشارة إلى الارهاصات الأولية للوعي الأمازيغي والتي دشنها خريجو ثانوية طارق(lycée Tariq) بآزرو ويتقدّمهم الأستاذ محمد شفيق، والسبق الذي حققوه (أبناء الجنوب) في مجالات البحوث العلمية والإبداعات الأدبية والفنية- خاصة المسرحية والسينمائية – والتراكم الكتابي منذ قرون عدة، والعمل الجمعوي ذي النكهة الأمازيغية، وكذا "تمسّكهم" أكثر من غيرهم بخصوصيتهم الأمازيغية - لسانيا على الأقل - في المدن كما في القرى، وهو وضع لا يمكن أن ينكره إلا جاحد يغالط نفسه.
وإذا كان أبناء الجنوب رائدين في العمل الأمازيغي لفترة ما قبل المعهد، فإن ذلك لا يعني بتاتا حقّهم - وإن كان من المجازفة التسليم المطلق - في الاستسلام لحمية الانتماء اللغوي الضيق، والانتصار لخصوصيتنا الجنوبية على حساب متغيراتنا وخصوصياتنا الأخرى، صحيح أن اللغة الأمازيغية المعيارية تغلّب المتغير "السوسي" وهو واقع لا يمكن نفيه، إلا أنه وبالمقابل له ما يفسّره بالنظر إلى كون المتغيّرات الأخرى تأثرت أكثر بألسنة وافدة بشكل تمّت معه معجمة (lexicalisation) عدد كبير من المفردات الدخيلة، والتي تحتفظ جهات أخرى بمرادفاتها الأمازيغية والتي يجب تبنّيها في إطار الإيمان بالعمق المشترك ووحدة اللغة، علاوة على أسباب أخرى، ذاتية وأكثرها موضوعية.
لقد كان على المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية أن يضع نصب أعينه مسألة "السلم الاجتماعي" (paix sociale) في مشروع التهيئة اللغوية (Aménagement linguistique) للأمازيغية وينفتح بشكل أكبر على المتغيرات الأمازيغية جميعها وإعمال مبدأ تكافؤ الفرص، ويغنينا عن الخوض في الموضوع بهذه النكهة التظلّمية، ومن باب الإنصاف، وجب التنبيه إلى متغيّرتين أخريين هما متغيرة "الجنوب الشرقي" التي تتميّز عن المتغيرة "الفازازية"، ثم متغيرة "فكيك" التي تتميز عن المتغيرة "الريفية". إن المسألة يجب أن تناقش على مستوى أعلى يترك القرار فيه للغويين المتخصصين ممن يغلّب الدراسات اللسانية وفقه اللغات على أن ندعه لعامة المواطنين ممن يستسلمون لتضخم "الأنا اللغوية" (mégalomanie linguistique) في هذا الجانب أو ذاك.
إن مؤسسة المعهد الملكي ليست من ستفرض هذا المتغير أو ذاك بهذا الشكل القسري، وما تطبعه هذه المؤسسة وتنشره يجب أن نفتخر به ونتدارسه لكونه يعكس تجليات اللغة الأمازيغية في هذه الجهة أو تلك ويجعلنا نكتشفه، وهنا يتعين علينا الانتصار للتعدد والتنوع الذي لا يمكن أن إلا أن يفرض نفسه بالنظر الى شساعة الأرض التي تتكلّم الأمازيغية، وذلك عبر تكثيف التأليف والبحث وبكل المتغيرات، على أن يعمل كل منّا على تنقيح المتغيرة الذي يشتغل عليه بشكل يجعله ينعش المتغير ولا يجد حرجا من الانفتاح والاقتراض من المتغيرات الأخرى.
إن المقاربة التوافقية وسياسة التمثيلية التي لجأت إليها الجهات المعنية في تعاطيها مع مأسسة الأمازيغية سيف ذو حدين، فهي وإن كانت ظاهريا شكلا من أشكال الديمقراطية التمثيلية وهي أرقى الديمقراطيات، فإنها تنطوي على توظيف وصولي (Arriviste) لهذه المسألة جعل سياسة "شد الحبل" نهجا غير معلن داخل ردّهات هذه المؤسسات، وهو ما يفوّت على الأمازيغية فرص إقلاع حقيقي. ومن الطبيعي أن نجد من يتمسّك بنظام "الكوطا" بشكل انتهازي غير مؤسس لكونه يخدم مصلحته الشخصية ويضمن له المناصب ضدا على مصلحة الأمازيغية، لذلك لا ينفكّ يجيّش لذلك أفواج المتعاطفين من العامة.
إننا بهذا الشكل نخدم الأجندة التي طالما ناضلنا ضدها، أجندة التلهيج (Dialectisation) التي اجتهد مهندسوها في بناء الحواجز النفسية قبل المادية بين الأمازيغ لإيهامهم باختلاف وتباعد "لهجاتهم" وذلك لتنفيرهم لسانيا من بعضهم البعض قصد تسهيل "تذويبهم" في منظومة لغوية أخرى. يجب أن يدرك الجميع أن هذه المرحلة من عمر الأمازيغية مفصلية، ويتعين علينا أن نوحد الجهود للتأسيس للغة مكتوبة تجمع كل الأمازيغ مهما تباعدوا واختلفت متغيراتهم القـُطرية والجهوية والمحلية، فالعاقل لا يجادل في كون اللغة المعيارية تحديا حقيقيا أمام عزيمة الأمازيغ، وينبغي التعامل معها بذكاء أكبر، نحن نسعى إلى لغة توحّد الأجيال القادمة في الشق المكتوب، ويبقى حفظ الخصوصية في الشق الشفوي حقا مكفولا.
ختاما، يجب على الأمازيغ - وبدون استثناء - أن يدركوا أن إحقاق حقوقهم رهين بحجم تضحياتهم، وقوة تضحياتهم رهينة بوحدة صفّهم، وبالتالي يجدر بالجميع أن يقدّر المسؤولية التاريخية والأخلاقية التي يتحملها حيال القضية الأمازيغية، ويعمل على تقريب الرؤى وتوحيد الصفوف، والإقلاع الفوري عن الخطاب الشعبوي، وتبنّي سياسة نقدية بناّءة وجادّة تفرض أفكارها بقوة الحجة وليس حجة القوة، وعلى من "يحتكر" - إن وجد - أن يدرك جيدا أن مصلحة الأمازيغية - قبل الأسس الديمقراطية - تقتضي إعمال العدالة بين المتغيرات بشكل علمي، وهجر كل ما من شأنه خلق التشنج والإحساس بالتعسف داخل الصف الأمازيغي، فإذا كان الظلم إحساسا مريرا، فظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة.