ككل المغاربة الذين استفاقوا على هول الفقدان، أشعر بالألم والحزن، وكل شبر في جسدي يؤلمني إلى اليوم، الطفولة والعنفوان والطموح والإيمان بالمستقبل، كلها كانت تملأ الحافلة/ التابوت، لم تكن في الحافلة فلذات أكباد فقط. كان الحلم يرفرف على الأطفال المستلقين في كراسيهم يسترجعون قواهم ويستعدون لملاقاة الأبوين والإخوة والأصدقاء، يملؤهم زهو التميز وحلاوة الاستحقاق.
غير أن اللهيب أكلهم بلا رحمة، اللهيب الذي اقتحم حلمهم وانتشر في أجسادهم في ثانية واحدة، ثانية صنعها القدر اللعين لا ريب، لكن صنتعها عوامل عدة كتلك الغيلان التي تلتهم كل سنة أكثر من 4000 من المغاربة على الطرقات بلا مقدمات.
التهور واللامسؤولية والسرعة المفرطة وعدم احترام تحديد السرعة وعدم احترام علامة قف وعدم احترام الخط المتصل وعدم احترام الضوء الأحمر والسياقة في حالة سكر وسياقة سيارات مهترئة والتوقف حيث لا يجب والتوقف في الصف الثاني والثالث والتجاوز على اليمين وتجاوز الوزن القانوني وملء العربات بأعداد تفوق طاقتها واستعمال غاز البوتان بدل البنزين والكازوال والسياقة بعجلات ملحوسة والسياقة ليلا بلا أضواء، والسياقات بلا أحزمة سلامة والسياقة بأطفال رضع في المقاعد الأمامية في سيارات فارهة، ناهيك عن رمي الأزبال من نوافذ سيارات لو رأيت أصحابها لحسبتهم نازلين لتوهم من أرقى الحاضرات في العالم ..
كل هذا يقع يوميا في حواضرنا وبوادينا وعلى الطرقات. كل هذا لأن أغلب السائقين لا يعرفون معنى احترام القانون، ولا يحسنون إلا "التبلحس" أمام الشرطي أو الدركي حين يباغتهم، ولا يفكرون إلا في الطريقة التي بها يشترون صمته وتغاضيه...
كل هذا، وحين تتجرأ على توجيه ملاحظة لأحدهم أو إحداهن على ما اقترفوه أمامك "يطلونك" بالسب والتهديد في أسوء الأحوال أو الهزء في أيسرها باعتبارك "باغي تدير فيها بطل ومصلح"... وهلم جرا.
لن أشير إلى أحد بسبابة الاتهام، فكفي لا تكاد ترتفع وألوذ بالصمت، الموقف لا يسمح بالمزايدة حتى بين الحكومة ومعارضيها.
أتصور لو كان أحد أبنائي في حافلة الموت. أتصور ولا أتشفى. أتصور وأشعر بنصف كياني ينسحب مني، لكم الله إذن أيها المفجعون، لكنّ الله أيتها الأمهات الثكلى، لكم الله أيها الأصدقاء الذاهلون.
أستطيع مع ذلك أن أفكر، استطيع أن أقول باسم الألسنة التي أخرسها الموت المفجع: "نحن كثر في ارتكاب الفظاعات أعلاه، وإن كنت أيها القارئ من مرتكبي إحداها، فاسمح لي أن أقول لك بلسان أولياء الراحلين اليافعين: أنت مجرم، ولا تحاول تبرير فعلتك، وإذا كان لك ولنا من ضمير فلنلتزم باحترام قانون السير قبل أن نطلب ذلك من الآخرين قبل أن نشتكي من حالة الطرقات، قبل أن نتباكى على فساد الشرطة أو الدرك، قبل أن نفقد شخصا قد يكون ابننا أو بنتنا أو عزيزا تصبح الحياة بعده جحيمنا الأبدي...".