كثيرا ما تمثل الحكايات والنكث والأمثال الشعبية والنوادر روح الفكاهة عند الشعوب، وهذا سر اهتمامي بها وإسرافي في الإستشهاد بها في بعض المقالات . وفي هذا اليوم خطرت ببالي حكاية شعبية مغربية وأنا أتابع أخبار الإقتصاد، والطقس، والحروب، والأمية، والفتن ، والبطالة، والفقر، والأزمة العالمية التي تهزأركانهذا العالم المختل الواقف على قدم واحد.. أخبار أحاول أن أتحاشاها طبعا في هذه الأيام لأسباب كثيرة.وأما الحكاية التي خطرت ببالي ،حتى لاننسى، فهي تقول:
يحكى والله أعلم أنه كان في إحدى بلاد المسلمين سوق شعبي أو "ممتاز" لبيع السلع والفواكه واللحوم وأشياء أخرى... كل بائع يعرض سلعته على الأرض مباشرة مناديا داعيا الزبائن للإقبال على منتوجه. وكان هناك تاجر متوسط العمر يضع أمامه مجموعة أمخاخ بشرية ( جمع مخ) مجمدة على الأرض مباشرة مرتبة محفوظة في قطع بلاستيكية بيضاء شفافة مثلما نفعل مع قطع اللحم المحفوظ في الثلاجة.أحدالفضوليين تقدم نحو البائع سائلا عن النوع والثمن.
أجاب التاجر أن الأمخاخ أنواع ولكل نوع ثمنه.فمخ الياباني دولاين ، ومخ الأمريكي يساوي 4 دولارات، ومخ الفرنسي 6 دولارا، بينما ثمن مخ المغربي 3000 دولار. تعجب السائل من هذا التباين، فما كان من التاجر إلا أن وضح سبب التفاوت حتى يخلص السائل من حيرته قائلا : مخ المغربي بهذا السعر لأنه جديد وما زال "دوبل ڨيww" لأنه لا يشتغل،أو قل لم يشغل أبدا، ولذلك فثمنه أغلى كأي سلعة جديدة لم تستعمل بعد.أما الأمخاخ الأخرى، فبسبب كثرة استعمالها في البحث العلمي والإنتاج الفكري والصناعي ،فقد تلاشت وفقدت الكثير من قيمتها وأيضا الكثير من سعرها الأصلي كأي سلعة رثة مستعملة تباع في سوق الخردة والمتلاشيات.
هذه الحكاية يرويها المغاربة عن أنفسهم، والمغاربة هم أكثر الشعوب الى جانب المصريين اختلاقا للنكث حول أنفسهم وخاصة في هذه الأيام.وقد يعود ذلك لنقد ذاتي دفين مغلف بسخرية لاذعة . ومن هنا نود ان نفتح قليلا صنبور الأسئلة على الجرح والوجع الذي يؤلمنا جميعاو نتساءل ، لماذا لم يشتغل المخ المغربي؟، وهل بإمكانه ان يشتغل؟،وكيف يمكن ان يشتغل؟، وما سبب اشتغال المخ الياباني والفرنسي والأمريكي...مثلا ؟
الجواب بسيط، ويكمن بدون لف أو دوران، في المناهج التعليمية.فلا يمكن لأية دولة ان يشتغل مخ مواطنيها بدون إيجاد مناهج تعليمية تشحد هذا المخ و تزوده بالطاقة اللازمة للإشتغال.الدول المتقدمة عملت على إيجاد مناهج تعليمية متقدمة زودتها بهذه الطاقة، فتبدلت أحوالها إلى ماهو أفضل على أديم الأرض وصولا الى سطح المريخ البعيد.
وإلى يومنا هذا ،أمام غياب هذه المناهج، لايزال المخ المغربي شأنه شأن أمخاخ دول عربية وإسلامية كثيرة"دوبل ڨي "لم يشتغل بعد ، وهذا ما جعل من سعره أعلى من سعر أمخاخ الدول المتقدمة التي اشتغلت كثيرا وصارت كنوع من "بون أوكازيو".لقد ظلت الدول العربية والإسلامية كلها من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر تتحدثت طوال أكثر من ألف وأربعمائة سنة عن القرآن دون أن تحكم به. أما العقل الذي ورد في القرآن والذي يمكن استخدامه باعتباره البرهان والمعيار فقد خرج من رؤوس العرب والمسلمين واختفى في الطبقات الجيولوجية للأرض وتحلل مع معدن النفط والفوسفاط فلم يعثر عليه المنقبون الجيولوجيون حتى الآن رغم تطور الآت حفر طبقات الأرض العميقة والعميقةجدا. ليس العقل وحده هو الذي شمله هذا الجمود القاتل ،فحتى العدالة كما جاءت في القرآن قد بقيت في أرشيف النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته تداولها خليفة أو ثلاثة ثم طويت وختمت بالشمع الأحمر باعتبارها من المحرمات التي يعاقب عليها القانون الوضعي الحديث،وستظل كذلك الى إشعار آخر..
وإلى يومنا هذا ،لايزال العرب والمسلمون يتخبطون بين منطق من يقول الإسلام هو الحل وبين من يقول التنمية هي الحل .وأنا أقول بأن استخدام وتشغيل "المخ" أولاهو الحل، وهذا ما يقبل به الإسلام وتقبل به أيضا التنمية. فلا إسلام بدون علم. ولاتنمية أيضا بدون علم .ولا علم بدون تشغيل المخ ومعرفة مناهج تشغيله، والله يرفع الذين أوتوا العلم درجات .وهذا العلم هو الذي رفع الغرب الكافرفي الدنيا درجات ودرجات ،وأنزل الشرق المؤمن الجاهل الأمي الى أسفل السافلين ، فالله لايحابي الجهال.