إلى عهد قريب (قبل تسعينيات القرن الماضي)، لم يكن "الانصهار" الهوياتي ـ أقول الهوياتي ولس العرقي ـ بين العرب والأمازيغ موضوعا يخطر بالبال، أو يطرق التفكير، أو يطرح كمجرد افتراض. وإذا حصل أن طُرح اعتبر الأمر ضربا من الجهل والسُّخف والعبث. ذلك أن الهوية "العربية" للمغرب، على المستوى السياسي والرسمي بل والشعبي أيضا، كانت أمرا محسوما كبديهية لا تناقش. وحتى دستور 1992 و1996 كان ينص على أن المملكة المغربية «جزء من المغرب العربي الكبير».
لكن بعد أن زعزعت الحركة الأمازيغية اليقينات الهوياتية للتعريبيين المغاربة ـ أو بالأحرى للمتحولين الجنسيين، أي الذين غيّروا جنسهم الأمازيغي بجنس عربي مزعوم (انظر موضوع: "المتحولون الجنسيون في المغرب" على رابط هسبريس: http://www.hespress.com/writers/250920.html) ـ، حول الانتماء "العربي" للمغرب، وأثبتت بالأدلة التاريخية والجغرافية والبشرية أن المغرب، شعبا ودولة، أمازيغي في انتمائه الهوياتي تبعا لانتمائه الترابي الجغرافي، بات هؤلاء التعريبيون، أي المتحولون الجنسيون، متخوفين على عروبتهم العرقية، وخصوصا بعد أن بدأ التصور الترابي للهوية ينتشر ويهيمن، وتنتشر معه وتهيمن القناعة أن الأرض الإفريقية للمغرب هي التي تحدد انتماءه الهوياتي، وليس الأصول العرقية لسكانه. أمام هذا التخوف من فقدان العروبة العرقية لمشروعية وجودها الهوياتي بالمغرب، لحساب مشروعية الهوية الأمازيغية، وجد هؤلاء التعريبيون الحيلة في مفهوم "الانصهار"، حتى يُقنعوا عبره أن المغرب لا يمكن أن يكون أمازيغيا في هويته، بسبب "الانصهار" والاختلاط، طيلة قرون عديدة، بين العرب والأمازيغيين، وهو ما نتجت عنه هوية "منصهرة"، يستحيل معها أن يعرف أي مغربي بالتأكيد أصوله العرقية وهل هو عربي أم أمازيغي. الغاية إذن من حيلة "الانصهار" هي أن لا يكون المغرب أمازيغىا، وتكون بالتالي للعروبة العرقية نصيبها الهوياتي ضمن عناصر "الانصهار" الذي يتميّز به المغرب، حسب فهم التعريبيين لهذا "الانصهار".
وقد حظي هذا المفهوم العامّي والخرافي، كما سنشرح ذلك، بانتشار واسع بعد أن تداوله المثقفون وتبنّوه كحل "ديموقراطي" لإشكالية الهوية في المغرب، لأنه، حسب رأيهم، يأخذ بعين الاعتبار كل المكونات التي صنعت الهوية المغربية. وهكذا أصبح "الانصهار"، ومرادفاته من الفاظ وتعابير من قبيل "الفسيفساء" و"الهوية المركّبة" والهوية المتعددة"...، يشكّل بدوره "بديهية" لا يمكن أن تكون موضوع نقاش أو شك ككل البديهيات: من يشك في أن المغاربة خليط من الأعراق والأجناس التي انصهرت وتلاقحت وتمازجت؟ من يدعي عكس ذلك سيصنّف ضمن الداعين إلى الصفاء العرقي، الذي هو مفهوم عنصري وغير ديموقراطي. ونظرا للنجاح الكبير الذي لقيه مفهوم "الانصهار"، فقد اعتمده حتى دستور 2011، الذي جاء في تصديره أن الهوية الوطنية «موحدة بانصهار كل مكوناتها». فمن يستطيع، إذن، أمام هذا الترسيم الدستوري "للانصهار"، أن ينكره أو ينفيه؟
وهنا يقع التعريبيون، عندما يستنجدون بخرافة "الانصهار" للدفاع عن خرافة العروبة العرقية في المغرب، في مأزق لا مخرج منه، وتناقضات لا حصر لها، نتيجة اعتمادهم على خرافة (الانصهار) للدفاع عن خرافة أخرى (العروبة العرقية كهوية للمغرب مثلها مثل الأمازيغية). سنعرض في ما يلي لبعض أوجه هذا المأزق وهذه التناقضات.
1 ـ إذا لم يكن أحد من المغاربة يعرف، على القطع واليقين، أصوله العرقية هل هي عربية أم أمازيغية، بعد قرون من "الانصهار" والاختلاط، فكيف عرف التعريبيون أنهم عرب ومن أصول عربية، وأن المغرب عربي، وأن دولته عربية، وأن المغاربة عرب جاؤوا من اليمن، حسب الخرافة الأخرى المعروفة؟ وكيف عرف منهم دعاة "النسب الشريف" أنهم ينحدرون فعلا من هذا "النسب شريف"؟ فمجرد القول بأن المغاربة "انصهروا" في أعراقهم وأنسابهم، يكون ادعاء "النسب الشريف"، والانتماء إلى العروبة عامة، أمرا يتناقض مع مسلّمة "الانصهار".
2 ـ "الانصهار" يعني اختلاط الأنساب بشكل لا يستطيع معه أي مغربي أن يعرف أصله ونسبه، كما سبقت الإشارة. وإذا عرفنا أن من لا يعرف أصله ونسبه، هو "لقيط"، ندرك النتيجة التي يفضي إليها منطق "الانصهار" التعريبي، الذي يجعل من المغاربة شعبا نغِلا مجهول الهوية والأصل. وهنا يؤكد التعريبيون أنهم يفضّلون أن يكون المغرب بلا هوية يعرف بها، على أن لا يكون بلا عروبة عرقية. فأنانيتهم تقضي أن تتقاسم العروبة العرقية مع الأمازيغية هوية المغرب، أو أن لا تكون لهذا المغرب أية هوية، مطبقين قول شاعرهم: إذا متّ عطشانا فلا نزل القطر.
3 ـ ثم إن "الانصهار"، كما يفهمه التعريبيون ويروّجون له، أمر مخالف لحقوق وكرامة الإنسان والشعوب. ذلك أن الشعوب تتمايز بعضها عن بعض بهوياتها الخاصة التي تعرف بها. والحال أن "الانصهار" هو بمثابة إلغاء لمفهوم الشعوب، لأنه يلغي هوياتها التي تحددها مواطنها الجغرافية التي تميز الشعوب بعضها عن بعض. فلو صحّت مقولة "الانصهار" بين الشعوب، لما أمكن معرفة أن هذا شعب عربي، وهذا فارسي، وهذا كردي، وهذا أمازيغي، وهذا فرنسي، وهذا ألماني، وهذا إنجليزي...
4 ـ بماذا وكيف يبرر التعريبيون، أي المتحولون الجنسيون، "الانصهار" الذي يدّعونه؟ يبررونه بفتح (لا يقولون احتلال) العرب للبلاد الأمازيغية، وما نتج عن ذلك من تلاقح وتزاوج واختلاط بين الأمازيغيين والعرب "الفاتحين". إذن، إذا كان "فتح" العرب للبلاد الأمازيغية سببا يفسر ظاهرة "الانصهار"، فلماذا لم يحصل مثل هذا "الانصهار" بين العرب والأتراك العثمانيين، الذين "فتحوا" (احتلوا) هم أيضا البلاد العربية واستقروا بها وحكموا العرب لأزيد من أربعة قرون؟ لماذا، إذن، لا يعتبر العرب أنفسهم شعبا "منصهرا" بناء على قرون من الاختلاط والتمازج بينهم وبين العثمانيين الأتراك؟ سؤال يؤكد أن "الانصهار" مجرد تبرير أناني وذاتي، كما تفعل العروبة العرقية دائما، وليس تفسيرا يؤسس لقاعدة عامة تنطبق على كل الحالات المتماثلة، مما يضفي على التفسير طابعا علميا وموضوعيا.
5 ـ ومن جهة أخرى، إذا كان المغاربة "منصهرين" لا أحد منهم يعرف هل هو عربي أم أمازيغي، فلماذا ينفق التعريبيون الملايين على تعريب المغاربة لإعطائهم انتماء عربيا؟ فالتعريب هو نقيض مباشر لـ"الانصهار"، لأنه، عكس حالة "الانصهار"، يجعل المغاربة يعرفون أنهم عرب وليسوا أمازيغيين. فكيف يدّعي التعريبيون "الانصهار"، ولكنهم ينفونه ويحاربونه بنهج سياسة التعريب التي تجعل من المغاربة عربا لا "انصهار" فيهم بأعراق أخرى؟
6 ـ وعلى المستوى السياسي، إذا كان المغاربة "منصهرين" لا يعرف أحد منهم هل هو عربي أم أمازيغي، فلماذا انضم المغرب ـ وبقي فيها ـ إلى جامعة الدول العربية باعتباره دولة ذات انتماء عربي، وهو ما يتناقض مع مفهوم "الانصهار"، الذي ينفي وجود هوية واحدة محددة بعد ذوبان كل الخصائص الهوياتية المتنوعة بعضها في بعض؟
7 ـ هذه الأسئلة والتناقضات والمآزق، التي يقع فيها أصحاب "الانصهار"، تبيّن أن نظرية "الانصهار"، التي أراد التعريبيون استعمالها لمواجهة نظرية الأرض في تحديد الانتماء الهوياتي، هي تأكيد لهده الأخيرة كمصدر لهوية الشعوب والدول. ذلك أنه إذا كان المغاربة لا يعرفون بالتحديد أصلهم هل هو عربي أم أمازيغي، فإن هناك أصلا واحدا مشتركا يعرفونه بالتحديد وبالإجماع، إليه ينتمون ومنه ينحدرون جميعا. إنه موطنهم بشمال إفريقيا. وهذا مأزق حقيقي للتعريبيين: فللرد على الأمازيغيين، الذين يقولون بأن هوية المغرب أمازيغية وليست عربية، لجأوا إلى نظرية "الانصهار" دون أن ينتبهوا أن نتائجها تصبّ في نظرية الأرض، وتؤكد بالفعل أن هوية المغرب أمازيغية لأن هذه الأرض أمازيغية.
8 ـ وعلى مستوى آخر، يخص احترام إرادة الشعوب ومراعاة اختياراتها وتقرير مصيرها بيدها، يطرح مفهوم "الانصهار" معضلة أخرى تشكّل مأزقا آخر للتعريبيين: فهل طلب الأمازيغيون هذا "الانصهار" من العرب؟ هل استُمع إلى رأيهم في ذلك، وهل يقبلون "الانصهار" مع العرب أم يرفضونه؟ هل كان هذا "الانصهار" نتيجة تراضٍ تعاقدي بينهم وبين العرب؟ هل أرسل الأمازيغيون طلبا إلى العرب بموطنهم بشبه الجزيرة العربية، يترجّون منهم الالتحاق بهم إلى أرض تامازغا للإقامة الدائمة بقصد "الانصهار" معهم؟
هذه أسئلة محرجة للتعريبيين الانصهاريين، تبيّن أن مثل هذا "الانصهار" المفروض، إن وجد، فهو لا يختلف عن الاستعمار الذي لا يختاره المستعمَرون، لكن يفرض عليهم فرضا، بالغلبة والاحتلال.
لكن حتى لو اعترف التعريبيون أن فرض العرب على الأمازيغيين "الانصهار" الإجباري معهم، كان نوعا من الاحتلال والاستعمار، فإن ذلك لا يستقيم مع منطق "الانصهار" الحقيقي، والذي سيأتي شرحه بعد قليل. ذلك أن الطرف المغلوب هو الذي "ينصهر" و"يذوب"، كقاعدة عامة وقارة، في الطرف الغالب. وإذا كان العرب قد احتلوا شمال إفريقيا، فمعنى ذلك أنهم غلبوا وانتصروا. وفي هذه الحالة يجب أن لا "ينصهروا" كغالبين مع الأمازيغيين كمغلوبين. إلا إذا كانوا هم المغلوبون، أو في حكم المغلوبين، كأن يكونوا مهاجرين وعابري سبيل وأجانب، "ينصهرون" داخل الشعب الذي قبل إيواءهم واحتضانهم.
فـ"الانصهار"، كما يفهمه ويريده التعريبيون، أمر مخالف إذن للواقع ولمنطق الأشياء. إنه خرافة أخرى من الخرافات الكثيرة التي تعيش بها وبفضلها العروبة العرقية.
9 ـ هل عدم وجود "انصهار" بين العرب والأمازيغيين، بالمضمون الهوياتي الذي يفهمه ويريده الأولون، معناه أن الجنس الأمازيغي صافٍ ونقي لم تخالطه الدماء العربية؟ لا، أبدا، وإلا سقطنا في نظرية "الصفاء العرقي" المنتشرة عند التعريبيين، والتي هي شرط لخرافة "النسب الشريف".
فـ"الانصهار"، كما يفهمه ويريده التعريبيون، لا يمكن أن يكون بين شعبين، وإلا لاختفت كل الشعوب التي تدخل في علاقة "انصهار" مع شعوب أخرى، بفعل "ذوبانها" الذي يفضي إليه "الانصهار"، كما سبقت الإشارة. وإنما يحصل هذا "الانصهار"، إذا جاز أن نستعمل نفس المفهوم، عندما يستقر، وبصفة دائمة ونهائية، مهاجرون أو أجانب بغير بلدهم الأصلي. وبعد عدة أجيال، يصبح المنحدرون منهم منتمين إلى نفس الهوية التي ينتمي إليها السكان الأصليون، بحكم الانتماء إلى نفس الموطن الذي استقر به أجدادهم المهاجرون عندما كانوا مجرد أجانب، لا زالوا يحتفظون بهويتهم التي استمدوها من موطنهم الأصلي الذي هاجروا منه. فالمنحدرون من هؤلاء الأجداد الأجانب "انصهروا" إذن في هوية بلد الإقامة، الدائمة والنهائية، الذي أصبح موطنا لهم، وبالتالي مصدرا لهويتهم، لا فرق بينهم وبين السكان الأصليين في الانتماء إلى هذا الموطن.
لكن هذا "الانصهار" الهوياتي، إذا كان يعطي للمنحدرين من الأجداد المهاجرين هوية جديدة هي هوية السكان الأصليين، فإنه، بالمقابل، لا يغيّر شيئا من الهوية الأصلية لهؤلاء السكان الأصليين، كأن ينقل إليهم بـ"الانصهار" جزءا من الهوية التي كان عليها الأجداد المهاجرون، كما يريد التعريبيون إقناعنا بذلك لإيجاد موطئ قدم للهوية العربية في المغرب. فـ"الانصهار"، هنا، يكون إذن من طرف واحد، هو الطرف ذو الأصول الأجنبية الذي استقر بالموطن الجديد، الذي أصبح بالتالي المحدد لهويته. النتيجة إذن، إذا جاز الحديث عن "الانصهار" بين العرب والأمازيغيين، هي أن العنصر العربي، ذا الأصول الأجنبية عن الأرض الأمازيغية، هو الذي "انصهر" في الهوية الأمازيغية بعدما أصبح ينتمي إليها نتيجة استقراره بموطن هذه الهوية، والذي هو الأرض الأمازيغية. ولهذا فنحن لا ننكر ولا ننفي وجود أمازيغيين قد تكون أصولهم العرقية عربية، مثلما لا ننكر ولا ننفي وجود أمازيغيين قد تكون أصولهم العرقية فينيقية أو رومانية. فالأمازيغيون لم "ينصهروا" في العروبة لأنهم لا ينتمون إلى موطنها، في حين أن العرب الذين استقروا بالمغرب، أصبح المنحدرون منهم أمازيغيي الهوية بعدما اتخذوا البلاد الأمازيغية موطنا دائما ونهائيا لهم.
وكأمثلة توضيحية واقعية، نذكّر أنه يوجد بالمكسيك عدد هائل، قد يقدّر بالملايين، من المكسيكيين ذوي الأصول الإسبانية الحقيقية، وليس المفترضة مثل الأصول العربية المزعومة بالمغرب. إلا أن هويتهم هي نفسها هوية باقي الشعب المكسيكي، الذي هو شعب غير إسباني، رغم أنه تبنى الإسبانية لغة، واعتنق الدين الذي جاء به الإسبان أنفسهم. ونفس الشيء يقال عن المهاجرين اللبنانيين بالبرازيل، الذين يشكلون بها أزيد من 6 ملايين (يومية "الشرق الأوسط"، عدد 7966 بتاريخ 19 سبتمبر 2000). ومع ذلك فهوية الشعب البرازيلي هوية برازيلية واحدة، وليست هوية "منصهرة"، برازيلية وعربية لبنانية، نتيجة "انصهار" الطرفين اللبناني والبرازيلي، حسب منطق التعريبيين في المغرب. فالطرف "المنصهر" هو الطرف اللبناني وحده، الذي اختار "الانصهار" في الهوية البرازيلية وضمن الشعب البرازيلي، منذ أن اختار الاستقرار النهائي بالأرض البرازيلية، التي أصبحت، بالتالي، هي كذلك أرض المنحدرين من المهاجرين اللبنانيين، ومنها يستمدون هويتهم رغم أن أصولهم العرقية ليست برازيلية.
وهذا ما يصدق كذلك على المنحدرين من إدريس الأول، إذا سلّمنا مسبقا، ولهدف بيداغوجي توضيحي، أن كل ما حكاه عنه التاريخ هو حقيقة وليس أسطورة، وأن إدريس الثاني هو فعلا ابنه البيولوجي. وهكذا يكون المنحدرون من إدريس الأول قد "انصهروا" ضمن الشعب الأمازيغي، لأنهم ينتمون إلى نفس الأرض التي ينتمي إليها هذا الشعب، مما يجعل انتماءهم الهوياتي انتماء أمازيغيا يستمدونه من أرضهم الأمازيغية، لا فرق بينهم وبين الأمازيغيين الأصلين، بغض النظر عن أصلهم العرقي المنحدر، حقيقية أو ادعاء، وجزئيا فقط (لأن جدتهم أمازيغية)، من إدريس الأول العربي. فـ"الانصهار" إذن هو دائما من جانب واحد، سواء كان فردا أو أسرة أو قبيلة، وهو الجانب الذي استقر بالموطن الجديد، الذي سيصبح هو الموطن الوحيد لحفدته بعد عدة أجيال، وهو الذي سيمنحهم إذن هويتهم التي سيعرفون بها. ولا يهم بعد ذلك أن تكون أصولهم العرقية أمازيغية أو عربية أو لبنانية أو إسبانية...
ونفس الشيء يسري أيضا على المغاربة المهاجرين بفرنسا، بالنسبة لمن يستقر منهم بصفة دائمة ونهائية بهذا البلد. إلا أنهم، وحتى بعد استقرارهم بفرنسا ولمدة طويلة، لن يكتسبوا الهوية الفرنسية بعدُ رغم أنهم قد يحصلون على الجنسية الفرنسية ـ وهذا أحد الفروق بين الهوية والجنسية. بل إنه من غير المتيسر، عكس الجنسية، تغيير الهوية، بالنسبة لمهاجر استقر ببلد جديد، في مدة نصف قرن مثلا. لكن أبناء هؤلاء المهاجرين، من الجيل الثالث أو الرابع أو الخامس أو حتى السادس، حسب متانة الارتباط بالهوية الأصلية وقوة ممانعة الهوية الجديدة لأي "انصهار" ذي مصدر خارجي، سيصبحون فرنسيي الهوية، لا فرق بينهم وبين الفرنسيين الأصليين، لأنهم بالفعل "انصهروا" في الهوية الجديدة بعدما أصبحت فرنسا هي موطنهم الحقيقي الوحيد، مثلهم مثل بقية الفرنسيين الأصليين.
لكن بالمقابل، لا "ينصهر" الفرنسيون أبدا في هوية المغاربة المهاجرين، لأن "الانصهار" لا يكون تبادليا يسري على الجانبين، كما يريد أن يوهمنا بذلك التعريبيون حتى يعطوا شرعية هوياتية للعروبة العرقية. وإنما يحصل من جانب واحد، كما شرحنا، وهو الجانب ذو الأصول الأجنبية، الذي "ينصهر" وحده في هوية البلد المضيف.
فمياه الصرف الصحي، وحتى لو شكّلت نهرا ضخما يصبّ في المحيط، فإنها لن تجعل ماء البحر قذرا وعفنا نتيجة "انصهاره" بمياه الصرف الصحي القذرة والعفنة. وإنما مياه الصرف الصحي هذه، هي التي تفقد خصائصها الكيمائية كمياه قذرة وعفنة، وتكتسب خصائص جديدة هي خصائص مياه البحر المالحة والنقية التي لا تشوبها قذارة ولا عفن. فمياه الصرف الصحي إذن، هي وحدها التي "انصهرت" في مياه البحر، وهو ما يعني أنها اختفت ولم يعد لها وجود كمياه صرف صحي، وإنما أصبحت جزءا من البحر، الذي لم تفقد مياهه شيئا من خصائصها الأصلية نتيجة اختلاطه بمياه الصرف الصحي. فـ"الانصهار"، على مستوى الهوية، هو إذن دائما من جانب واحد وفي اتجاه واحد: "انصهار" الجزئي في الكلي، والأجنبي في المحلي، والوافد في الأصلي، والخارجي في الداخلي، والعرقي في الترابي...
بل حتى في حالات الاستيلاء الدائم والنهائي على أرض شعب آخر من طرف شعب محتل، وزرع هذا الأخير لهويته بتلك الأرض لتصبح امتدادا هوياتيا لموطنه الأصلي، كما حدث بكندا والولايات المتحدة واستراليا ونيوزيلاندا وبجزء من الأراضي البيزنطية التي استولى عليها العثمانيون في القرن الخامس عشر، فإن "الانصهار" لا يتحقق أبدا بمضمونه التبادلي كما عند التعريبيين، إذ تنتج دائما عن مثل هذا الاستيلاء، الدائم والنهائي، على أرض الغير، هويةُ واحدة، أي غير "منصهرة"، تتحدد إما بالانتماء إلى الأرض الجديدة التي أصبحت الموطن الجديد، الدائم والنهائي للمحتلين وللسكان الأصليين على السواء، كما في كندا والولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلاندا، وإما بالانتماء إلى هوية الشعب المحتل بعد أن تصبح الأرض المستولى عليها ملحقة بموطنه الأصلي وجزءا منه، تتبنى بالتالي هويته الأصلية تطبيقا لقاعدة تبعية الهوية للأرض، كما في الأراضي البيزنطية، التي أشرنا إليها، والتي أصبحت هوية سكانها تركية منذ القرن الخامس عشر بعد أن صارت أرضا تركية، وبصفة دائمة ونهائية لا رجعة فيها.
هذه الحالات القصوى، من الاحتلال والاستيلاء الدائم والنهائي على بلدان الشعوب، لا تنطبق طبعا على الاحتلال المؤقت للعرب لبلاد تامازغا، الذي وضع الأمازيغيون حدا نهائيا له، كاحتلال عسكري وسياسي، في معركة الأشراف سنة 123 هجرية، واستردوا بعد هذا التاريخ سيادتهم السياسية والعسكرية والهوياتية. لكن مثّلنا بها لنثبت للتعريبيين أن "الانصهار" خرافة لا وجود لها، بالمعنى الذي يعطونه لهذا المفهوم الخرافي، حتى في هذه الحالات القصوى التي يهيمن فيها، عسكريا وسياسيا، شعب على شعب آخر، وبصفة دائمة ونهائية.
أما حالة تعدد الهويات ـ بالجمع وليس بالمفرد لأنه لا توجد هوية متعددة ـ داخل دولة واحدة، كما في إسبانيا وبلجيكا مثلا، فهي لا تمثّل كذلك "انصهارا" بين عدة هويات، لأن هذه الأخيرة تبقى مستقلة بذاتها ومتمايزة بعضها عن بعض بحدودها الترابية واللسنية داخل مجال جغرافي خاص بها، مثل منطقتي "كاطالونيا" و "الباسك" بإسبانيا، ومنطقتي "فالوني" و"فلامان" ببلجيكا. وهذه حالة لا تنطبق طبعا كذلك على المغرب، لأنه لا يوجد به مجال جغرافي كأرض أولى خاصة بالأمازيغيين، معروفة بحدودها الترابية واللسنية، ولا مجال جغرافي كأرض ثانية خاصة بالعرب، معروفة بحدودها الترابية واللسنية، حتى يصح الحديث عن وجود هويتين بالمغرب، إحداهما أمازيغية والثانية عربية. وإنما يوجد مجال جغرافي واحد، معروف أنه أرض أمازيغية توجد بإفريقيا، عكس المجال الجغرافي للأرض العربية الذي يوجد بقارة أخرى وهي أسيا. والنتيجة أن كل من ينتمي إلى هذه الأرض الأمازيغية فهو أمازيغي، مهما كانت أصوله العرقية، أمازيغية أو عربية أو فينيقية أو رومانية...، أو غير ذلك.
الخلاصة أن "الانصهار" بين العرب والأمازيغ، الذي يفترض أنه أعطى هويتين اثنتين بالمغرب، إحداهما عربية والأخرى أمازيغية، كما هو سائد في التصور العامّي للهوية، لكن المنتشر كذلك لدى الكثير من المثقفين والمفكرين، هو خرافة يكذّبها الواقع والمنطق. لأن "الانصهار" لا يكون تبادليا على شكل أخذ وعطاء بين طرفين، وإنما، كما سبق أن شرحنا، يكون من طرف واحد، "يذوب" و"ينصهر" بمفرده في الطرف الثاني، دون أن يبادله هذا الأخير نفس "الانصهار" و"الذوبان". وعليه، فإن العرب الذين يفترض أنهم استقروا بالمغرب منذ قرون عديدة، قد "انصهروا" بالفعل في الهوية الأمازيغية وأصبحوا أمازيغيين لا فرق بينهم وبين الأمازيغيين الأصليين، بغض النظر عن أصولهم العرقية التي يتوهمون أنها عربية، ودون أن ينتج عن "انصهارهم" أي تغيير في الهوية الأمازيغية الواحدة للمغرب وللشعب المغربي.