يعد النضال من الوسائل المهمة في الترافع عن قضايا الناس العادلة ،حيث يعانق المناضل هموم الناس البسطاء والمهمشين ، بنية رفع الظلم عنهم، وإعادة بصيص أمل إلى نفوسهم ،ظل مفقودا ردحا من الزمن، إما لإهمال المسؤولين وتعنتهم وعدم اكتراثهم ،أو لنكوص المظلوم وغفلته، وتواضع مداركه.وهما أمران يزيدان من تعقيد مهمة المناضل النبيلة ؛لأنه في هذه الحال ،ينبغي أن يكون فعله النضالي مزدوجا: يستهدف رفع الظلم والتهميش من جهة ،ثم محاولة ترسيخ ثقافة الوعي بالمسؤولية من جهة أخرى، ثقافة تتعالى على كل الموروثات التي لا تنسجم مع المنطق الديمقراطي.وهي مسؤولية جسيمة وصعبة للغاية ؛وجسامتها تعود بالأساس، إلى ماهو ذاتي من جهة ،وما هو موضوعي من جهة أخرى.فأما الصعوبات الذاتية :فمرتبطة بالتصور الذي ينطلق منه المناضل ،والغاية المثلى وراء فعله النضالي، وقد تمتد لتشمل الوسائل والسبل المنهجية أيضا؛ وأما الموضوعية منها: فغالبا ما ترجع بالأساس ،إلى النظم القانونية التي يصطدم بها المناضل ،والتي تحول دون تحقيق ما يصبو إليه، وهو مايستدعي حضور المشرع ،لأن المدخل الأساس لرفع الحيف لا يكون إلا بتغيير القانون، إنها بصفة عامة كل ما يتعالى ويتجاوز إمكانياته .
لابد من الاعتراف ،بكون الصعوبات التي تعتري الفعل النضالي،كثيرة وعديدة، ويطبعها التباين والاختلاف،وذلك تبعا لاختلاف مجالات النضال: فهناك الجمعوي، الثقافي،الإعلامي الحقوقي ،السياسي، النقابي،الفني..وكلها مجالات مهمة ،تزيد من نبل الفعل النضالي، والحاجة الماسة إليه؛بيد أن الواقع المر ،يحبل بالعديد من الممارسات التي تحد من نبل النضال، وتجعله بالتالي، يحيد ويزيغ عن هدفه الأسمى .
ولئن رمنا الاستدلال على ذلك ،لأشرنا إلى بعض الممارسات الرعناء، كتلك التي يطغى عليها الذاتي، بماهو تعبير عن أنانية مفرطة، ونرجسية مقيتة ،لكونها تنطلق مما يسميه الفيلسوف كانط ،ب:"الاستعمال الخاص للعقل" الذي يستحضر البعد البراغماتي الصرف؛ فتجد المناضل يسعى إلى إبراز ذاته ،فيمسرح الأقوال والأفعال لإثارة الانتباه .وهذا النوع يخفي في داخله أزمة نفسية عميقة "مسكونة بهواجس جنون العظمة "، ويشتغل بمنطق عدمي ،ينكر كل شيء ولا يعترف بشيء ،مهمته إثارة الزوابع واستعراض العضلات أينما حل وارتحل ،وهو بذلك أقرب إلى السفسطة في أخس وأبشع تجلياتها. هذا النموذج يصعب عليه تحقيق مطمح معين، لكونه "ظاهرة صوتية" تجيد النفخ في الرماد ،والصياح في الواد، وفي أسوأ الأحوال ،ترسيخ نزعة تشاؤمية تجاه الذات والآخر .ويجد هذا النموذج في المجال الحقوقي ،مجالا خصبا لبهرجاته وشطحاته .وخطورته تكمن ،في كونه لا يؤسس للمنطق المؤسساتي ،الذي يبني مواطنا فاعلا مبدعا يشتغل وفق قوانين منظمة ،وأعراف مؤسسة.
إن ارتباط النضال بنزعة براغماتية صرفة، يحد من فعاليته وجدواه ، وهو ما يصطدم به المواطن البسيط ،لما يكتشف أن هم المناضل الحقيقي ،لم يكن الترافع عن حقوقه ؛وإنما الظفر بامتياز معين .وهو ما جعل العديد من الناس يديرون ظهرهم للعمل السياسي الذي أصبح فيه منسوب البراغماتية مرتفعا. فأصبحت الأحزاب مجرد كيانات متكلسة تدمر نفسها بنفسها بحرب المواقع والموالاة والاصطفافات الكاريزماتية التي تعصف بالديمقراطية، وتزيد المشهد الحزبي تشظيا وتبلقنا ؛لأن التخندق في صراع المواقع بمثابة نفق مظلم ، تزداد فيه الضربات الناعمة بين "الإخوة الأعداء" وتبلغ مداها وحدتها بالكولسة ،مما يضفي نكوصا على التنظيم الحزبي ، يستتبعه بالضرورة نكوصا على مستوى النضال والترافع،وما قلناه عن الحزب يمكن أن يطال العمل الجمعوي ،الذي أصبح وللأسف الشديد، مرتعا للوصوليين والانتهازيين الذين يؤسسون جمعيات فقط للتهافت وبشكل هستيري على المساعدات التي يهبها المانحين قصد استثمارها في مشاريع خاصة تغدق عليهم وعلى ذويهم.أما الإعلام والسياسة والنقابة فما يطالها من انتهازية وبيع للضمائر والمتاجرة بالحقوق، أفظع مما يمكن أن يخطر على بال، ومن هنا ضرورة تسييج النضال بشروط دقيقة ،ومراقبة فعالة ،يكون عمودها الأساس ،جملة من المبادئ على رأسها سلطة الضمير:كوازع يأمر المناضل وينهاه ويجعله أمينا في التعامل مع قضايا الناس بكل واقعية وتجرد ،ودون مزايدة وركمجة.وكلما كان النضال منطلقا من أسس مبنية على التجرد والإخلاص، إلا كان أشد ابتعادا عن حظوظ النفس، وأقرب إلى كسب رهاناته.ومن هنا ضرورة تجديد النية وعقد العزم ،لبلوغ مستويات رفيعة على مستوى النضال.وأمام موت الضمائر وقابليتها للتسعير والتهييج ،فإن سلطة الضمير لا تكون فعالة ومجدية ،ومن هنا الحاجة الماسة إلى قطع الطريق على الوصوليين و الانتهازيين لتحصين كل المؤسسات ،سياسية كانت أم جمعوية ونقابية ،وهذا ما لن يتأتى ،إلا بتجديد الدماء فيها ،بطاقات شابة ومعقولة، تنطلق من مبدأ التعاون مع الغير على الخير،وتطلق طلاقا بائنا بينونة كبرى كل الممارسات والشوائب التي علقت بالنضال من براغماتية صرفة، وكولسة، بغيظة ،وانتهازية مقيتة.
وعلى الرغم من كل الشوائب التي أشرنا إليها ،والتي رسمنا من خلالها وعبرها صورة قاتمة على النضال ،فإن الواقع يزخر بتجارب ونماذج تبدد ذلك الظلام الدامس ،وتعيد الأمل في النفوس ،وهي إشارة تحمل بشرى مفادها:إنه مهما اشتد ظلام النفق ،فثمة ضوءا يومض في آخره. ضوءا نبراسا يهتدي به كل باحث أتت على عزيمته شوائب النضال ووعثائها، وفقد الأمل في وجود نضال مخلص ،مجرد ،وأصيل.