أدى صلاة العشاء، وانصرف في عجل ،قبل أن يختم الفقيه بالدعاء، اخترق الزقاق بخفة، كأنه لص يهرب من عيون الناس، ولا يريد أن يفتضح أمره ،تسلل إلى الدار في هدوء، تقرفص كالقنفذ في الركن الأيمن من الحوش،وقد لف سلهامه على جسده النحيف ،اتقاء للفحات البرد القارسة ،ظل متأملا وممعنا النظر في ألسنة لهيب النار، وهي تعلو حتى تعانق السقف ،وتذوب في الفضاء، تمنى لو يذوب مثلها ،ويختفي للأبد، تمنى لو يصعد إلى السماء .
جاءت حاملة رحاها ،وحطتها قرب دائرة النار ، وعادت لتأتي بالقمح، جلست فارعة رجليها،ممسكة مقبض الرحى بيد،وواضعة القمح في اللهوة باليد الأخرى. صوت الرحى كسر الصمت العميق، كأنه هدير مياه جارفة ،يأتي من بعيد .طقطقات القمح زادت من انكماشه ،خجله، خوفه، لم يكن القمح هو الذي يطحن، كان قلبه هو الذي يطحن، يعصر، يذوب رويدا رويدا، ويحترق بلهيب الألم ،احتقر نفسه واحتقر الدنيا كلها .
شرعت في القول، خاطبت أناسا وهميين، وسبت آخرين، تساءل: كيف لها بامتلاك هذه القدرة على القول؟ لو طلب منها أن تتحدث لمدة شهر دون انقطاع لفعلت. أهو القول غذاء لروحها الفارغة ؟ ابتسم لبلاهتها، لحظته بطرف عين ،وقررت أن تدميه، أن تغرز أنصال السكاكين في قلبه إلى أبعد حد، وفي الحين حبكت قولا مرصعا ،فيه الكثير من معاني الذم والاحتقار، رفعت عقيرتها وغنته كما تغنى الأشعار، غنت وغنت ولكم تلذذت بذلك .
نفذ صبره، انتصب أمامها على حين غفلة، كالشبح الجبار، لم ينطق بكلمة، واكتفى بالتحديق فيها، نظراته أخافتها، فهي تتوعدها بالويل، إن هي استمرت في
حمقها، بدنها بدأ يرتعش، لكنها لم تخرج عن سنة القول، وتحدثت إليه باستخفاف:
* ماذا هناك أيها... !
* يقولون الثرثرة من الحمق ألا تصمتين، وتمنعين خروج الثعابين من ذلك الغار اللعين ؟
* وإن لم أصمت، ماذا كنت ستفعل؟ !
* سأقطع لسانك ،وأسد الغار بالإبرة والخيط ،لعلنا نجد راحة .سأقطعه يا نسخة من الشيطان،سأقطعه مثلما أقطع رؤوس الأفاعي في الغابة ،سأقطعه، وأحنطه ،وأضعه أمامك على الدوام ،تنظرين إليه ،لعل الصمت يعيد لك الصواب ،يعيد لك الحكمة .
استمرت في استخفافها به وإثارة غضبه .
* بل قل ستقطعه وتشويه في النار، لتسكت به جوعك، وجوع أولادك، كن مطمئنا، إنه لن يفي بالغرض، ستظل دائما على جوع.
وتنكرين الجميل أيضا؟ وأنا بفضل الرحمان، من أطعمتك من جوع ،وآمنتك من خوف.صحيح الثرثرة شر، ونكران الجميل شر ،والويل لمن تملكه الشر ،سيحتاج إلى وقت طويل، لكي يتخلص منه، إن استطاع إلى ذلك سبيلا، ومن كان جائع القلب، فلن يشبع نهمه أي شيء ،حتى ولو وضعت خيرات الدنيا أمامه ،مسكين هو مسكين ... !
أدار لها ظهره، وعاد إلى رحاب عزلته وتأمله، تاركا لغطها وسبابها، يضيعان في الفراغ، بل رصاصا يرتد ويخترق قلبها الفارغ ليرديها قتيلة.