لا أحد منا ينكر أن البرلمان المغربي قد أصبح خلال النسخة الحكومية الحالية يشد أنظار عشاق الكوميديا من كل حدب وصوب, لا سيما بعد النجاح الباهر الذي حققته سلسلة" اضحك مع (على) بنكيران في البرلمان ", حيث دأب السيد رئيس الحكومة منذ أولى حلقات هذه السلسلة على تحويل تراجيديا الأزمة الاقتصادية ببلادنا إلى فرجة كوميدية, اغتدت على إثرها الكائنات النورانية والبرمائية محورا للخطاب السياسي في بلادنا, بدلا عن الإنسان الذي لم يعد يحضر في مخيلة قيدوم الكوميديين المغاربة إلا لحظة التخطيط لزيادة هنا أو تضريب هناك.
هذا, وبعد غياب طال أمده, عاد بنكيران في الحلقة الأخيرة من سلسلته الكوميدية إلى قبة البرلمان في حلة سينوغرافية جديدة, حيث حضر هذه المرة في ضيافة مجلس المستشارين متأبطا بندقية بارودية, وممتطيا صهوة حصان شبيه بحصان طروادة, ربما كان له الفضل في نقل إنجازات حكومة بنكيران الوهمية من مقر رئاسة الحكومة إلى مقر البرلمان, ذلك لأن المسالك المؤدية إلى المقر الأخير تعج بما يفوق ستة آلاف أستاذ وأستاذة, يجوبونها حفاة صبحة وعشية, بحثا عمن اغتصب حقهم في الترقية بالشواهد الجامعية إسوة بالأفواج التي سبقتهم.
وعلى إيقاع طلقات البارود بدأ السيد بنكيران يفرغ جوف حصانه الخشبي من الإنجازات, التي لم تكن غير أوهام, سئمنا تردادها على مسامعنا دون خجل طيلة السنتين العجفاوين اللتين قضاهما على رأس الحكومة؛ فمن غير المعقول أبدا أن يتبجح السيد رئيس الحكومة إلى يومنا هذا, وفي ظل احتقان اجتماعي متوتر للغاية, بأنه أنقذ المغرب من اضطرابات الربيع العربي, رغم أن آمال هذا الربيع قد علقت على كتفيه ولم يحقق منها شيئا يذكر. ومن غير المعقول كذلك أن يعتبر الأستاذ بنكيران أن وقف نزيف الإضرابات في القطاعات العمومية إنجاز يحسب لحكومته, ذلك لأن وقف هذه الإضرابات لم يكن نتيجة لوضع أصبعه على مسبباتها وحل طلاسمها, وإنما نتيجة لاقتطاعات جائرة طالت جيوب المضربين في غياب قانون منظم للإضراب. أما غير ذلك من الإنجازات الوهمية التي أخرجها السيد بنكيران من جوف حصانه, فلم تكن سوى خطاب عائم مائع,لا نكاد نلمس له دلالة في عالمنا المرجعي القاتم, الذي يشهد نكسات اجتماعية مسكوت عنها في الفن الكوميدي عند بنكيران.
بيد أن المثير في " حلقة التبوريدة " الأخيرة هو أن السيد رئيس الحكومة لم يحكم قبضته جيدا على زناد بندقيته, فأطلق وصفا غير محسوب العواقب على آلاف الأساتذة المتظاهرين بجوار قبة البرلمان مطالبين بحق الترقية عبر الشواهد الجامعية, والذي تحاول حكومة بنكيران, في شخص وزير التربية الوطنية, الإجهاز عليه إثر إصدار مرسوم للمباراة, يزكي الإقصاء ويضرب في العمق مبدأ تكافؤ الفرص المنصوص عليه دستوريا, فقد وصف السيد بنكيران في طلقته الأخيرة الأساتذة المعتصمين بـ " المتجولين " القادمين إلى الرباط للنزهة. يا للهول, كيف يعقل أن يوصف بالمتجول المتنزه من يرابط في الشوارع صباح مساء تحت رحمة العنف المخزني والاعتقال والاقتطاع من الأجر الهزيل والتهديد بالانقطاع والعزل من الوظيفة ؟ ومتى كانت المطالب الاجتماعية في البلدان الديمقراطية تجابه بأوصاف من هذا القبيل؟ هل في دستورنا ما يجيز لمؤسسة رئاسة الحكومة بحكم شعبيتها الواسعة رمي المواطنين بالموبقات والزلات اللغوية غير المسؤولة ؟ ألا يدرك السيد بنكيران أنه راع مسؤول عن رعيته, وأن أي احتقان مفترض يتحمل مسؤوليته الأولى ؟ إذا كان لا يعلم فتلكم مصيبة, أما إذا كان يعلم فتلكم مصيبة أعظم, لأن هؤلاء المتجولين كما يدعي تركوا خلفهم مئات الآلاف من التلاميذ بين جبال المغرب وصحاريه, محرومين من حقهم في التعلم, دون أن يجدوا أذنا تصغي لمظلوميتهم, وكلما دقوا بابا للمطالبة بحقهم ينكسر أفق انتظارهم حينما يدركون أن مبعث محنتهم هو تعنت " بابا بنكيران ", الذي كان من ذي قبل ينشدهم " أنشودة الحق " مرتديا جلبابه الإسلامي الطاهر, ويبعث في نفوسهم إحساسا بالأمان والاطمئنان على المستقبل, لكن خاب ظنهم مثلما خاب ظن أقرانهم وآبائهم ومربيهم. ولعل ما يبعث على الاستهجان في نفوس هؤلاء جميعا, أن السيد بنكيران يتذرع في مواجهة هذا الاحتقان الاجتماعي بشعبيته التي لم ينعم بها مسؤول حكومي قبله, وأن مواقفه العنترية لن تتزعزع إلا إذا خرج الشعب يطالب برحيله. أتساءل هنا, ألا ينطوي هذا الموقف الغريب من أعلى قيادة حكومية على دعوة ضمنية إلى ربيع مغربي ثان نحن في غنى عنه ؟
عهدي بك سيدي الرئيس وكأنك تجر الأصوات التي تصدح في شوارع الرباط مطالبة بحقوقها الاجتماعية الصرفة إلى الحلبة السياسية التي تتقن فن القتال فيها, قولا لا فعلا بطيعة الحال, لأنك تدرك جيدا أن هذه الأصوات, إن هي سقطت في مكيدتكم وانجرت وراء استفزازاتكم السياسية, ستنجون بأنفسكم بخطابكم الروحاني المعهود, خطاب العفاريت والأشباح والتماسيح وهلم جرا. لكن هيهات ثم هيهات, لقد أبان هؤلاء المغتصبون في حقهم عن حس نضالي غير مسبوق, صنعوا على إثره مجدا إعلاميا وشعبيا, أعطى للعالم درسا في العلاقة الوشيجة بين المواطن المغربي وحقوقه.
لذا, ما دمتم سيدي الرئيس راعيا لكل الشعب, أقول لكم أن إبلكم العطشى لن توردوها بالخطابات الجوفاء واختلاق الأوهام وافتعال الصراعات وادعاء المباركة الشعبية لخطواتكم ورفع راية التحدي في وجه كل من طالب بحقه, ليس هكذا يمكن لرئيس حكومي أن يضمن الاستقرار والنماء لوطنه. نحن اليوم في حاجة ماسة إلى إرادة سياسية حقيقية في الإصلاح بالمفهوم الذي نعرفه, لا بالمفهوم الذي أظهرتموه في زياداتكم وتضريباتكم وإعفاءاتكم عن الفساد, ولن يكون هناك إصلاح إن لم يتحل المرء بخلق سياسي عظيم هو ترجمة الأقوال إلى أفعال, لأنه على حد قول الشاعر :
لا خير في وعد إن كان كاذبا ولا خير في قول إذا لم يكن فعلا