عند رجوعنا لتاريخ القصة في عالم الأدب, وخصوصا القصة القصيرة نجد تعريفها نادرا جدا, و إن عثرنا عليه,فالتعريف يبقى غير واضح, ومعقد, بعيد عن التحديد.
لقد اختلف الكتاب و النقاد في إيجاد تعريف لها, لكنهم التقوا في كونها لون أدبي يلبي حاجيات الإنسان النفسية و الاجتماعية, اعتمادا على سرد أحداث وقعت أو يمكن أن تقع. أو على الحكي الخيالي الممتع لجلب انتباه القارئ/ المتلقي.
يعد مبروك السالمي مبدعا قاصا, على الكلمات رقاص, سالم النوايا, يستمع أكثر مما يتكلم, و إذا تكلم أقنع, يبتسم فتغرق عيناه الضيقتين الجميلتين في وجه بشوش كأنه قادم من أرض مشرق الشمس. أعرفه عن قرب, مجالسته فيها متعة, نشاط, هدوء و طمأنينة, لسانه متشبث بالأمل, بغد أفضل, مبدع , شامخ في رؤيته للأمور, إنسان العقل, إنسان المبادرة, بعيد عن كل الآءات.
بعد مخاض عصيب , جاءنا بوليد جديد, أضمومته الأولى - متمنيا له التألق والمزيد -..أضمومة تحت عنوان" حلزون واحد فقط " جاءت في 64 صفحة, من الحجم الصغير, و الصادرة عن مطابع الرباط نت .غلاف الكتاب لوحة تشكيلية تطابق العنوان, هي من تصميم الفنان التشكيلي محمد السالمي, توحي , بحلزون ينتشي قوقعته (مسكنه ) منفردا لا يزاحمه أحد و هذا أمر طبيعي, ما دام تكوينه الجنسي عبارة عن ذكر و أنثى في نفس الوقت. فقوقعته له وحده, يمارس فيها ظروف حياته ليضمن الإستمرار , كما تحميه من الأخطار....
وقائع و أحداث الأضمومة , صيغت بأسلوب قصصي, فيه لمسة القاص المبدع الفنان, لمسة فنية شعورية يقدمها للمتلقي/ القارئ في حلة ترقى بالإنسان إبداعيا و أدبيا.
شدرات قصصية جميلة مغلفة بحجاب رقيق يصور خلجات القاص النفسية, شد رات قصصية يستعصي على القارئ أحيانا التوصل إلى استكناه الجوهر, اللب . نصوص يطبعها أو يسطر عليها الطابع الشكلي الصرف (فلسفة الشكلانيين الجدد)( الفن من أجل الفن) وهذا نجده هي أقصوصة "تهنئة " لوحة فنية كاريكاتورية لإنسان يضع القناع على وجهه / عرفته من قفاه /هنأته على الوجه الجديد /. ظاهرة حمل القناع أصبحت شائعة...سلوك غير مرغوب فيه داخل المجتمع...سلوك ذو آثار سلبية...
هنا لا يفوتني البوح, و لو على وجه التقريب , أن مبروك السالمي , صاحب ذات شديدة التوتر و الانفعال في بعض كتاباته, و يتجلى هذا في "ذبابة " حيث أن فقدان السيطرة على النفس تقتل الصبر.. وعند انعدام الصبر تكون النتائج وخيمة / أزعجته....أمسك بها...رماها جثة هامدة../ تفكير ديني يسكن ذات الكاتب. دعوة إلى التسلح بالصبر الذي من نتائجه الفوز و النجاح...
لعل الحس الحاد الذي يتميز به مبروك السالمي. جعله يهتم في أضمومته, بالمشهد الحواري, و الذي من خلاله يتقمص و بكل قوةأشخاص/ أبطال أضمومته...فهناك الشخصية الوحيدة تارة, كما نجده في "لوحة " الفنان الشعبي الذي أفسد ثقب اللوحة عمله و فنه/أنهى عمله , بدأ يتأمله .وجد ثقبا كبيرا في سند اللوحة.../ سرية تعتمد اللهجة الدارجة...ذات المبدع الشعبي /وراه كاينة ظروف /و تارة أخرى شخصيات متعددة, كما في " تركة " حيث تبرز تقنية الحوار بين الاخوان الثلاثة, حوار بجمل قصيرة بمثابة رسائل(فلاش ) حاملة للحكمة /سننشئ وسط الضريح متحفا / /و ماذاترك لنا غير بردعة و لجام / نتبين من هنا أن الأب الشيخ لم يمت ( فلسفة الاستمرار في الحياة ) عمله لم ينقطع بتركه أولادا صالحين يذكرونه...وبردعة و لجام, رمز للتاريخ.....للانتصارات...للبطولات...رمز للتقاليد الضاربة في عمق الزمن...
لقد شمل المشهد الحواري كذلك عالم الحيوانات, إذ سجل لنا مبروك السالمي , على لسانها حوارا مطبوعا بأسلوب بسيط , مختصر, و مشوق , يعبر إلى الذاكرة بيسر و سلاسة, وهذا نجده في " حمار ذكي " (فن المونولوج ) /فكر مليا و قال في قرارة نفسه / /سأنتظر حتى تتهاوى الجدران..../ /سأصدر تعليماتي...إلى كل حمير العالم.../ . وفي " قطة " حوار بين الانسان و الحيوان ( القطة ) , حوار يفضي إلى أن الطعام المفضل لها هو الفأر, و هذا هو سبب التصاقها به أينما حل و ارتحل /لم أنت لاصقة بي كظلي ؟ / أجابته . رائحة فأر تفوح من جيبك..../ من خلال هذه المشاهد الحوارية نستشف ذات المؤلف التي تختزن طاقات إضحاكية و فكاهية..
لقد طرقت أضمومة مبروك السالمي أبواب مجموعة من القيم الاجتماعية ,و السياسية , و الدينية , و الأخلاقية, لتسخر منها و تعريها لما لها من آثار سلبية في الحياة...فبعض السلوكات يسيطر عليها التفكير السلبي, كما في " صنارة " تشاؤم الإنسان و هروبه من الواقع , و عدم مواجهته / رمى صنارته في بحر همومه../سحب الصنارة و أخرج معها جثة تشبهه../ .وفي " سوط " الجسم الجميل المدلل لا يتحمل العنف...السوط أدى دوره الثقيل داخل الاضمومة...إنه رمز للعنف...بعث لفترة صعبة مر بها المجتمع, ثقافة القمع و اللاحوار, زمن العصا.. /بسوطه نزل على الزهرة.../ لم أكن أتوقع أن هشة بسيطة ستسقط أجزاءها.../. وفي " كرة " الخوف و الفزع اللذان أصبحا ينتابان و يهيمنان على نفسية الإنسان, فرادى و جماعات, تحت تأثير الإرهاب بكل أنواعه./ اقتحم بيتنا رجال ملثمون...كبلوني و اقتادوني الى وجهة مجهولة...اتهموني بصنع عبوة ناسفة.../. وفي " نصب " كلام قليل لكنه دال, رسالة قصيرة, مفادها أن التغيير ضروري في الحياة ./ حطم النصب...مكانه أنشأ تمثالا.../.
أحداث مأساوية أدت إلى تلاشي هذه القيم و التي تتجلى في الشعور باليأس , و الذي غالبا ما يؤدي إلى الانتحار, كما في " بحث مضن " / أخذت قلبها...و لما أضناها السعي و لم تجد إلا السراب, أهدته قربانا إلى الغربان.../. عالم الشعوذة و السحر,تفشي العقلية الساذجة, كما في " بائعة الورد " / عليك ب –با احماد –فهو الوحيد الذي سيجعل تجارتك مزدهرة /../أدخلها غرفة منتشرا بحورها .../بدأ في قراءة التعاويد و الطلاسم...كان أول الزبائن.../.
هذا و لم يفت مبروك السالمي, أن يتطرق إلى معضلة الزواج, الذي يشكل عائقا يقف أمام الفتاة في استكمال دراستها, فالأسرة تخاف على ابنتها أن يفوتها القطار , وتصبح عانسا. الأقصوصة " ذكرى "تفضح و تنتقد هذه الظاهرة / باركن لها النجاح.../ رأت نفسها في مدرج الكلية../استفاقت على ايقاع همس أمها.../ لقد زوجك أبوك.../.
إن التحولات النفسية لذات الكاتب, تمزج الأحداث و الشخصيات بالزمان و المكان, مع عمق في النظر إلى الحياة و الوجود. نظرة إلى العالم الذي أضحى تعج فيه الفوضى قانون الغاب, الحروب التي تدوس نيرانها الاخضر و اليابس, تبيد الإنسان, تهجره عن أوطانه, هذا لاجئ, و ذاك منبوذ,و هذه أرملة أثقل الإملاق ممشاها بحثا عن ابن أو ابنة تعرضا للخطف أو الاغتصاب أو....لذلك فأقصوصة " قذيفة " تصور لنا بعض الأحداث الدامية و الموجعة...فما ذنب المستضعفين و الابرياء؟ و لماذا الحروب؟ لماذا الوحشية ؟ /سقطت على البيت . دمرت كلشيء....صبي متفحم يحمله كهل..../
الدروس و العبر و الإشارات إلى انعدام الامن, كما في " حلزون واحد فقط " /عاد إلى قوقعته فلم يجدها.../.فقدان الثقة , غياب التكافل بين الناس, بين الجيران و الأسر../القوقعة لا تتسع إلا لحلزون واحد../
تقنية الحوار و المتمثلة في الكلمة المناسبة في مكانها المناسب, و هكذا يتجنب الكاتب/ القاص, الاطالة و الثرثرة, و لعل برقية " إعدام " قد أدت دورها و وظيفتها الإخبارية السريعة, ذلك أنه تصغر في عين الكبير الكبائر, و أن الموت أهون إليه من ان يعيش مستعبدا فاقدا الحرية, برقية زئبق تفاصيلها محدود, يكتفي بالإشارة فقط.
هذا ومن خلال أضمومته نجده قد تفتقت رياحينه, صاح بكل صوته, أصواته, زركش بكل ألوانه, أبدع بكل تقنياته. تقرؤه فيتجلى أمامك شامخا فنانا في الرسم و التشكيل, وقد تتخذ بعض انتاجاته صورا كاريكاتورية حبلى بالمعاني. مبدع ينقل لنا الصورة ناقدا مرة و كأن عينه كاميرا تلتقط كل ما يفضح الطابوهات...ومرة ساخرا من بعض السلوكات المشينة التي لا تلائم حياة المجتمع مرات أخرى ينظر للأمور بعين ثاقبة, فتمر أمامك الأحداث و الوقائع موشومة و موسومة بالحكمة والفلسفة مرة, و بالفكاهة مرة أخرى, حيث الضحك يبعد عنك الرتابة و التشاؤم و التطاير. إنهحقا مبدع ممثل تفنن فأبدع, مسرحي أجاد الادوار, بلغة كاتبة تدس تحولات نفسية عميقة النظر في الحياة و الوجود, لغة تتميز بالرمزية التي لا تتوقف على قراءة واحدة للنص .قاص بارع في اختيار كلماته التي تأخذ بلب القارئ / المتلقي. الجمل القصيرة, /صارت له أياد- قلمتأظافري- يشيعني غيري..../ كثافة الأفعال في الزمن الماضي, و هذه ظاهرة لغوية تسيطر على جل أقصوصاته,. / احترف –حطم- قررت- كان- أحرجه..../ كذلك الضمائر الغائبة. و هنا يكمن الحكي الخيالي الممتع لجلب انتباه القارئ / المتلقي,فيجعله مشاركا معه في الاحداث, تاركا له المجال مفتوحا وحرا لتصور الاشخاص كما يحلو له,/بجرافته حطم النصب – كان يحلق مع الفراشات- ألقى فيهم كلمته الرنانة -.../ و للقارئ ان يتصور وان يتخيل من حطم , و من حلق , و من ألقى الكلمة.