قضى صاحبنا معظم حياته بين أحضانها .. تمتع بجمالها، وأخذ منها كل مراد ومبتغى ... هي بدورها بادلته الحب كله والعطاء جله، ولم تبخل عليه يوما بشيء إلا ما كان فوق طاقتها وطوقها... فهي مسقط رأسه، وربة بيته، ومهده منذ نعومة أظفاره إلى أن سار طفلا وديعا وشابا وسيما...
كانت وقتئذ تغمره السعادة حين يرافق والده إلى "السوق نبرى" أو "السوق الأسبوعي"، أو يلهو بطائرة ورقية من صنع يديه.. تستطيع الصمود في وجه الرياح... يتباهى صاحبنا بطائرته الورقية أمام رفاقه في باب الحي أو " إيمي نغرم" كما ينطقه لسانه ولغته الأصيلة...
ها هو صاحبنا بلغ أشده.. كبر ونضج .. فقال ربي أوزعني أن أرحل عن مسقط رأسي.. منتصب القامة أمشي في رحلة بحث عن حضن آخر...
سمع صاحبنا الكثير عن بلاد الشقر والزرق والدولار.. ولم ير بأم عينيه منها شيئا إلا ما كان من رطانات الأصحاب وحديث الشوق إلى بلاد الخلاص، تتبعها "كلاكصونات" سيارات الصيف الصفراء المزعجة مهما كانت فارهة.. فقرر صاحبنا أن لا طعم للأرض ولا ذوق إلا الرحيل.
لَم أشياءه ولملم أغراضه وجمع ماله وعدده.. وعزم الرحيل إلى بلاد السيارات والدولارات.. راكبا أمواج البحر في ظلمات الليل البهيم...
هاجر صاحبنا كل شيء جميل...
ما إن وطأت قدمه الأرض الجديدة حتى اختلجته أحاسيس غريبة ومتضاربة، فرح بالوصول إلى بلاد الأحلام، وندم على الرحيل من بلاد الأنام... تذكر حينها "إيمي نيغرم" فتحشرجت أنفاسه، وسكبت عيناه عبرات الأسى...
وصل صاحبنا إلى مكان إقامته بعد إرهاق ومشاق السفر... استلقى على وسادته الرطبة ولم يستيقظ إلا بعد مرور سنوات طوال .. فقد تناسى كل شيء : الأسرة – الدين – الوطن – الهوية ــ اللغة ... راحت مبادئه وقيمه الأصيلة التي تربى عليها في بلاد تيموزغا...
حاول جاهدا أن يعود بنفسه إلى الأمس الذي ولى ومضى، لكن تفاصيل عدة وحلقات متداخلة وأفكار متضاربة، يصعب التمييز بينها وتفكيكها هي التي حالت بين صاحبنا وبين فهم ما جرى وكيف وصل به الحال إلى ما هو عليه..
حنين تنغير يا سادة يغالب صاحبنا ويلوك فؤاده رغم كل ما قيل أو يقال، ولذا عاهد نفسه بالعودة إلى أرضه الأم.. أرض الهوية والكرامة... تنغير الحب والود والسخاء.. كيف سينساها، وكيف تحلو الحياة خارجها..؟
مرت سنوات طوال عجاف ثم عاد صاحبنا بعد استفاقة ضمير إلى "إيمي نيغرم" من جديد لكن الحال غير الحال والمآل غير المآل ... ماذا جرى وحدث!؟
لم يجد صاحبنا الهرم أحدا من أصدقاء الطفولة والشباب، ولا من كبار القبيلة.. لم تعد تربطه بهذه الأرض سوى ذكريات رسمت في مخيلته...
حتى "إيمي نيغرم" لم يعد كما كان، فقد عرف تغييرا كبيرا، بل أعيد بناؤه كي يتناسب مع الشكل الجديد للمدينة...