عندما يختار البعض أن يعود بنا إلى فكر أضحى خارج سياق المستجدات وروح العصر ليمجده وينافح به، نجد أنفسنا مجبرين على توضيح بعض النقاط وإثارة الانتباه إلى باطن وعمق هذا الفكر وفلسفة صاحبه التي نشتم منها رائحة الابتزاز والخديعة التي تقوم على المتاجرة بقدسية الوطن والدين لمسخ الأوطان وتفقير أبنائها وتهميشهم، والسعي إلى استنبات قومية على أرض أراد لها أن تكون شيئا آخر ضدا على كل الحقائق التاريخية والأنتربولوجية.
ارتبط اسم الراحل بالقومية العربية وبالحركة الإسلامية الحديثة ممن دعوا إلى نوع من السلفية التجديدية، ولد بمدينة فاس في الثامن من يناير سنة 1910 من أسرة "عربية" "مسلمة" هاجرت من الأندلس إلى المغرب، واستقرت في القصر الكبير قبل أن تحل بمدينة فاس حيث اشتغل أبوه مدرساً في جامعة القرويين، وكان قاضياً، ومفتياً.
كان موقف الراحل من المسألة الأمازيغية بالمغرب واضحا لا يشوبه لبس ولا غموض، موقف يقوم على المعاداة والاجتهاد الفعلي لاجتثاث أهلها فكريا ووجدانيا على الأقل، وهذا أشد ما يمكن أن يقدم عليه شخص يحاول البعض اليوم أن يصوره لنا زعيما وبطلا ومحررا ووطنيا، كتب[1] الراحل قائلا أن "المغرب" عرف قبل الإفرنج ببلاد الأمازيغ أي "الوطن الحر"، إلا أنه يتعمد هو نفسه أن يصفه ب"المغرب العربي" في أكبر تناقض لنزوة الراحل مع واقع الأمر، وأكبر مغالطة مررها إلى جيل اليوم ممن لا يزال يوظف هذا الوصف الاختزالي. وأضاف يقول: عرف سكانه أسلاف البربر بالأمازيغيين، ومعناها أن أجدادنا أمازيغ، أي الرجال الأحرار فيما نحن نظل "بربرا" بما للكلمة من معنى وحمولة قدحية.
الراحل أبدع من بين ما أبدع نشيدا "وطنيا" تضمن في شطر منه: "... أليس إسلام الأمازيغ أبوه عربي؟"، إنها السياسة القديمة الجديدة التي تقوم على التضليل والمغالطة من خلال ربط الإسلام بالعروبة والعروبة بالإسلام، وهو توجه نجح في توريثه لدولة ما بعد الاستقلال الشكلي لتكرس بذلك فلسفة الراحل القائمة على استئصال واجتثاث الآخر المختلف.
إن تاريخ المغرب المعاصر في جزء كبير منه تزوير وطمس ممنهج للحقيقة، فبعض أبناء العائلات الفاسية هم من استقدم الحماية، هم من ولجوا وتكونوا في مدارس المستعمر في الوقت الذي سالت فيه الدماء الطاهرة لأحرار المغرب ممن آثروا حمل السلاح في وجه المستعمر، الأبناء نفسهم هم من أمروا بعد ذلك بقراءة اللطيف خلال الثلاثينيات لتضليل الشعب المغربي، هم من رفعوا "العريضة" مطالبين ب"إصلاحات"، وهم أنفسهم من ذهبوا الى مفاوضات "إكس ليبان" من أجل مساومة المستعمر وإجهاض نضالات جيش التحرير الذي يتحاشون الحديث عن وجوده.
بعد الرحيل الجزئي للمستعمر عن أرض الأحرار، انكشفت الحقيقة المرة، حقيقة معاداة من يريد لنا أن نفتخر به وزمرته للأمازيغ، كان ذلك صراحة سنة 1957، عندما خاطب أحد قادة الحزب الفاسي الاستقلاليين قائلا لهم: "أيها الإخوة إن جلاء الجيش الفرنسي قد تم، و إجلاء القواعد الأمريكية في الأفق، لكن المشكل الكبير: كيف يمكن جلاء البربر؟"
هل يمكن أن يكون مثل الكلام زلة لسان؟؟؟ أليست عبارة تنم عن حساسية مفرطة تجاه كل ما هو أمازيغي صدرت من لاوعي صاحبها؟؟؟ أليست هذه قمة العنصرية والشوفينية التي تستدعي تقديم اعتذار رسمي لهذا الحزب للشعب المغربي؟؟؟ فعلا، تم إجلاء "البربر" ليس عبر الترحيل الفعلي لهم عن أراضيهم ووطنهم، بل من خلال سياسة بربرية جديدة تعتمد تفقير من تجرؤوا على مواجهة الغزاة وتهميش هويتهم ولغتهم وثقافتهم وإقصائها باعتبارها الخيار المتاح .
لقد عمل الراحل ومن معه على إلغاء قرار تدريس اللغة الأمازيغية بإعدادية أزرو، كما ألغوا العمل بالظهير المنظم للعدالة وفق الأعـراف الأمازيغية الذي أصدره السلطان آنذاك، وتمكنوا من إغلاق معهد الدراسات الأمازيغية بالرباط كما أحالوا الأطر الأمازيغية على التقاعـد رغم عدم استيفائهم للسـن القانوني للتقاعد. تلامذة الراحل ظلوا أوفياء لنهجه الاستئصالي تجاه كل ما هو أمازيغي حيث تم التراجع عن مشروع قانون ينص على إحداث معهد للدراسات الأمازيغية، بعد أن تم التصويت عليه في البرلمان سنة 1978.
من جهة أخرى ظل فكر الراحل حيا ونجح مرة أخرى في جعل الأمازيغية طابوها محرما وجريمة تجر من يتجرأ على الخوض فيها إلى الاعتقال وسلب الحرية، وكذلك كانت حال علي صدقي أزيكو، الحزب الفاسي تعمد سن سياسة عقابية تعتمد التهميش الاقتصادي للمناطق الناطقة بالأمازيغية، ليشغل الأمازيغ بالخبز و"التنمية" وينسوا الهوية واللغة والثقافة. لقد تفنن الاستقلاليون في التخطيط للقضاء على الأمازيغية، وبالمقابل تم تمجيد وقائع "تاريخية" مشكوك في أهدافها وصحة الروايات حولها، وتجاهل ملاحم كبرى لا لشيء إلا لكون أبطالها من خارج دائرة "الحركة الوطنية" المزعومة .
لعل من قمة المروءة أن الأمازيغ يحترمون - من باب إيمانهم الراسخ بالاختلاف - موقف من يريد أن يبجل ويعظم المقاوم المناضل والزعيم والمفكر وغيرها من الألقاب الرخيصة في زمن المسخ، ومن قمة مروءتهم أنهم يحترمون - من باب القبول بالاختلاف دائما - رأي من يريد الاحتفاء برحيل الراحل الذي كان يكن العداء للغتنا وثقافتنا من تحت جلباب الفقيه الورع الواعظ التقي، السياسي الذي لم يجد حرجا في أن يقول يوما:
" ألوم أجدادي الذين كرسوا جهدهم للوعظ والإرشاد في السهول والوديان وتركوا لنا العجمة في الجبال"
في الختام، أرى لزاما على المغاربة أن يطالبوا الحزب بتغيير اسمه لأن "الاستقلال" ملك مشترك لكل المغاربة ولا يحق لحزب معين أن يحتكر هذا الوصف الذي يسمو على كل الانتماءات السياسية الضيقة، كما ندعو كل المنتسبين إلى هذا الحزب إلى تحيين مخيالهم الاجتماعي والعمل على مراجعة تعاطي حزبهم مع العديد من المسائل التي تغير سياق الحكم عليها في مغرب القرن الواحد والعشرين وتتقدمها المسألة الأمازيغية .