المقال التالي ذو طابع جدلي ، أروم من وراءه فتح نقاش هادئ مع بعض المنتقدين لتجربة التنسيقية المحلية لمناهضة غلاء الأسعار والدفاع الخدمات العمومية ببوعرفة . ذلك لأنني أصبحت ألاحظ- بحكم تتبعي لما يكتب حول الحركات الاجتماعية ببوعرفة - أن البعض يكتب بدافع التشفي حول مصيرالتنسيقية ، بل أن بعض الآراء التي يتم التعبير عنها عبر وسائل الأعلام وفي المنتديات العامة والخاصة غالبا ما تنقد التجربة من أجل تبخيسها عبر التركيز على نقط سلبية معينة . إن تجربة التنسيقية المحلية لمناهضة غلاء الأسعار والدفاع عن الخدمات العمومية ببوعرفة لها نقط قوتها ونقط ضعفها ، لذلك فان أي تقييم للتجربة لن يكون موضوعيا إذا سقط في الاختزال ، و نظر فقط إلى نصف الكأس الفارغ .
فتجربة التنسيقية لمناهضة غلاء الأسعار والدفاع عن الخدمات العمومية ببوعرفة من التجارب المتميزة والرائدة على المستوى الوطني ، لذلك يجب إنصافها عبر التعريف بها بعيدا عن كل محاولات النفخ والتضخيم ، أو محاولات التقزيم والتنقيص . نحن بحاجة إذن إلى قراءات موضوعية في تجربة التنسيقية ، للتعريف بمكوناتها ، محطاتها النضالية ، قياداتها الميدانية ، المكاسب التي حققتها للساكنة ،نقط قوتها ونقط ضعفها وعلاقاتها الداخلية والخارجية ...الخ التزاما مني بهذه الأهداف سأطرح بعض القضايا للنقاش بهدف تجلية الأمور خاصة وأنني تحملت مسؤولية منسق التنسيقية المحلية لمناهضة غلاء الأسعار بببوعرفة من بداية تشكيلها من طرف خمسة مكونات نقابية وحقوقية وجمعوية في نهاية شهر اكتوبر 2006 والى غاية موتها يوم 18 ماي 2011 .
واليكم القضايا المعروضة للنقاش : - هل التنسيقية شرعية أم غير شرعية ؟ - هل التنسيقية تجاوزت الأحزاب ؟ - هل ماء بوعرفة حلال أم حرام ؟ - هل نزع العدادات قانوني أو غير قانوني ؟ - هل ماء الشرب ببوعرفة يتسم بالجودة ؟ أولا : شرعية أو لا شرعية التنسقية . صرح بعض الفاعلين المحليين مرارا بأن التنسقية المحلية لمناهضة غلاء الأسعار ببوعرفة غير شرعية ، بل وصل الأمر بالبعض إلى لوم السلطات المحلية والإقليمية وإدارة المكتب الوطني للماء على الجلوس معها على طاولات الحوار .حجتهم في ذلك أنها لا تتوفر على الوصل القانوني . إذا كان الأمر كذلك ، فلماذا تسمح السلطات لبعض التنسيقيات بالعمل وتنظيم الأنشطة مثل اللجنة الوطنية للتضامن مع الشعب الفلسطيني والعراقي والهيئة الوطنية لحماية المال العام و تنسيقيات الاطر العليا وهلم جرا ؟ كما أن البعض يتحجج بان بعض مكونات التنسيقية لا تتوفر على الوصل القانوني مثل الجمعية الوطنية لحلة الشهادات المعطلين وجمعية محاربة الفقر والدفاع عن الحق في الشغل وجمعية المجازين المعطلين . هذه الحجة مردودة على أصحابها ، فالجمعيات المذكورة تأسست طبقا لقانون الحريات العامة ، وقامت بإيداع ملفاتها القانونية طبقا لنفس القانون ، إلا أن السلطات هي من رفضت تسلم الملفات القانونية ، وإعطاء الوصل القانوني .
فلماذا بدل التشكيك في شرعية التنسيقية لا يتم التعبير عن التضامن مع بعض مكوناتها والاحتجاج على السلطات التي تخرق قانون الحريات العامة برفضها تسلم الملفات وتسليم الوصولات ، خاصة وان الأمر يتعلق بالحق في التعبير والرأي والتنظيم ؟ إننا إذا جارينا هذا المنطق الاقصائي ، فسنعتبر كل تنظيم لا يتوفر على وصل قانوني هو غير شرعي ، حتى ولو كان هذا التنظيم موجودا بشكل وازن على المستوي الواقعي ، ويؤطر شرائح مهمة من المغاربة . لن أسترسل في نقاش هذه النقطة لأن مسالة الشرعية في نظري محسومة ، طالما أنني أميز بين الشرعية القانونية والشرعية الواقعية والتاريخية .
قصارى القول فالتنسيقية المحلية لمناهضة غلاء الأسعار والدفاع عن الخدمات العمومية ببوعرفة لها شرعية نضالية تاريخية ، استمدتها من المعارك النضالية التي خاضتها ، و المكاسب التي حققتها ، و الفئات الاجتماعية المختلفة التي أطرتها.. والتاريخ سيسجل أن التنسيقية استطاعت أن تنجح في خلق الالتفاف حولها والاستجابة الواسعة لجميع خطواتها النضالية ( تنظيم مسيرات تاريخية في بوعرفة لم تستطع أية هيئة مضاهاتها والوصول إلى سقفها ) ثانيا : علاقة التنسيقية بالأحزاب يروج البعض –خاصة بعض الفاعلين السياسيين - أن التنسيقية المحلية لمناهضة غلاء الأسعار والدفاع عن الخدمات العمومية ببوعرفة تجاوزت الأحزاب السياسية ، وتعاملت معها بمنطق التعالي و الاستفراد الانتهازي بالقضايا .
للرد على هذه المواقف ، يلزم العودة إلى نقطة بداية التنسيقية أي مرحلة التأسيس ، فكيف تم تأسيس التنسيقية ؟ ولماذا تخلفت الأحزاب عن الانخراط فيها رغم أن مناضلي جل الأحزاب كانوا يشاركون في معاركها ؟ لقد تأسست التنسيقية المحلية لمناهضة غلاء الأسعار والدفاع عن الخدمات العمومية ببوعرفة بعد الأسبوع الذي نظمته الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وطنيا لتخليد اليوم العالمي للفقر ( 17 اكتوبر 2006) . فبدعوة من فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بادرت بعض الإطارات وهي الكونفدرالية الديموقراطية للشغل والجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين وجمعية المجازين المعطلين وجمعية محاربة الفقر والدفاع عن الحق في الشغل والجهة الداعية إلى الاجتماع إلى تأسيس التنسيقية ، لم تحضر لقاء التأسيس سوى هذه الإطارات الخمس . بيد أن المكونات المؤسسة ووعيا منها بجسامة المهام التي تنتظرها ، واصلت دعواتها للمكونات السياسية والنقابية للالتحاق لتضافر الجهود ، و الدفاع عن حقوق الساكنة ومن ضمنها طبعا الملف المطلبي حول الماء .
لم تستجب الإطارات للدعوات المتكررة والملحة للتنسيقية بقصد الانضمام إليها ، لكن للأمانة التاريخية فان جماعة العدل والإحسان حضرت في احد الاجتماعات ، وعبرت عن التحاقها بالتنسيقية ،وقد تم التعبير عن ذلك في بيان صدر عن التنسيقية ، لكن قيادة العدل والإحسان محليا اعتذرت فيما بعد عن الالتحاق لأسباب خاصة . إن مبررات عدم التحاق الاحزاب بالتنسيقية المحلية لمناهضة غلاء الأسعار والدفاع عن الخدمات العمومية مختلفة ، ويمكن إجمال الأمر في المبررات التالية : - كون التنسيقية تجاوزت الخطوط الحمراء في نظر الأحزاب. - اعتبار نضالات وأهداف التنسيقية ذات طابع سياسي وان كانت مغلفة بالمطالب الاجتماعية والاقتصادية . - قيادة التنسيقية من طرف عناصر جذرية راديكالية تتستر وراء النضال الاجتماعي / الاقتصادي . - دخول التنسيقية في متاهات مسدودة . - غياب الواقعية في نضالات التنسيقية . - رفع التنسيقية لمطالب غير قابلة للتحقيق وافتقارها للقدرات الاقتراحية ...الخ حصيلة القول أن هذه هي مبررات الأحزاب السياسية المعلنة لعدم الالتحاق بالتنسيقية رغم الدعوات المتكررة التي وجهت لها ، دون أن أغفل أن الأحزاب كانت حاضرة في التنسيقية بصيغة أخرى بحكم انخراط قواعدها في نضالاتها . ثالثا : ماء بوعرفة حلال أم حرام ؟ يعتبر البعض أن شرب ماء بوعرفة والوضوء به حرام لأن الساكنة لا تسدد الفواتير ، بل أن البعض اعتبر من يشرب ماء بوعرفة في عداد أكلة السحت .
إن هذه الفتوى تم الترويج لها من طرف البعض ، بل الأنكى من ذلك أنه تم استغلال بعض المساجد لتسويق هذه الفتوى . حسب علمي هناك جهة معينة مختصة بالإفتاء ، فلماذا شرع باب الإفتاء لكل من هب ودب ؟ للجواب على هذا السؤال أقول بان الغاية من وراء هذه الفتاوي هي استغلال الدين للطعن في شرعية نضالات الساكنة ، بحكم أن الساكنة متشبعة بالقيم الروحية . والواقع أن هذه الفتاوى لم تجد أي صدى لدى المواطنين ، لأن الجميع يدرك خلفياتها السياسية ، والجهات المروجة لها . إلا أن المفارقة العجيبة هي أن الأشخاص المحدودين الذين كانوا يروجون لهذه الفتاوي لم يسددوا ولو فاتورة طيلة مدة سبع سنوات وهي مدة مقاطعة الساكنة لأداء فواتير الماء . فلماذا لم يرفض هؤلاء قرار إعفاء الساكنة من التسديد لمدة سبع سنوات وهو الحل الذي أنهى المقاطعة ؟ ان هؤلاء استفادوا من الإعفاء أسوة بجميع الساكنة ، وإذا استعملنا عقنا المنطقي فهم أيضا شربوا وتوضئوا واغتسلوا بالماء الحرام ، لأننا لم نسمع مطلقا أن فردا من هذه الزمرة قد توجه إلى المكتب الوطني للماء وسدد مستحقاته أو تصدق بثمنها على من هم محتاجين إلى ذلك ، إن هؤلاء ينطبق عليهم المثل القائل : يأكلون الغلة ويسبون الملة . رابعا : جودة الماء ستظل هذه النقطة موضوع خلاف ، فحسب إدارة المكتب الوطني للماء ، فان ماء الشرب ببوعرفة جيد ، ويتصف بشروط ومعايير الجودة عالميا . إلا أن بعض الأطراف الأخرى ومن ضمنها التنسيقية المحلية لمناهضة الغلاء والدفاع عن الخدمات العمومية كانت دائما تشكك في الأمر ، وتشكيكها كان يستند على أراء جهات علمية مختصة .
فبعض الدراسات العلمية تِؤكد أن نسبة المنغنيز في ماء بوعرفة مرتفعة جدا على المستوى المطلوب ، وهو ما يؤثر على الجهاز العصبي لكل من يتناول الماء لمدة طويلة . ناهيك عن انعدام الشروط الصحية بالنسبة لبعض خزانات المياه ( المنجم القديم مثلا) ، وعدم معالجة وتصفية الماء . لكن من المفارقات العجيبة ، هي أن اغلب من يروجون لكون ماء بوعرفة جيد يشربون المياه المعدنية المعبأة ، أو يتوفون على آلات لتصفية ماء الشرب بمنازلهم . فهل يضحك هؤلاء على ذقون الناس ؟ إذن فان هذه النقطة بالذات ستبقى موضوع خلاف إلى حين عرض مياه الشرب ببوعرفة على مختبرات مستقلة . خامسا : قانونية أو لا قانونية نزع العدادات من الأمور التي تمت معاينتها مؤخرا إقدام لجنة مشتركة تتكون من السلطات المحلية تحت إشراف الباشا ومختلف القوات العمومية من امن وقوات مساعدة على نزع عدادات الماء بالنسبة للرافضين الأداء . فهل هذا الإجراء قانوني أم غير قانوني ؟ إن القانون بين واللا قانون بين ، وبالتالي فان نزع العدادات هو أمر غير قانوني للاعتبارات التالية : - إن العقدة المبرمة بين المكتب الوطني للماء والمستهلك تنص على أنه في حالة عدم تسديد المستهلك للفاتورة يتم توجيه الورقة للمرة الثانية والثالثة وبد ذلك يتم توجيه الإنذار عبر البريد المضمون مع الإشعار بالاستلام بعد ذلك يمكن للمكتب قطع تزويد المستهلك بالماء . هذا الإجراء لم يستعمل مع أي احد من الساكنة ، كما أن القضاء لم يقل كلمته بعد لجوء المكتب الوطني للماء كطرف مشتكي . - إن نزع العداءات حسب ما هو سائد كان بناء على تعليمات ، والتعليمات كما هو مؤكد حسب فقهاء القانون لا مكان لها في دولة الحق والقانون . لقد وقعت ممارسات وتجاوزات للقانون ومن الأمثلة على ذلك : - الطريقة التي يتم بها نزع العدادات تعتمد أساليب الترويع والإكراه . - الالتفاف على أهداف اللجنة المختلطة ، فقد حدد لها عبر اللقاءات التواصلية هدف واحد فقط وهو التحسيس ، فلماذا تحولت من التحسيس إلى أكراه الساكنة على الأداء ؟ وما هو مبرر انسحاب المستشارين الجماعيين وأعضاء المجتمع المدني وممثلي الساكنة من اللجنة المختلطة ؟ أخيرا : عودة إلى العنوان عنوان المقال مستوحى من ثقافتنا الشعبية ، وهو يحيل إلى المثال الشهور " منين تطيح البقرة يحضروا الجناوا " ، وهذا المثال ينطبق على وضعية التنسيقية المحلية لمناهضة غلاء الأسعار والدفاع عن الخدمات العمومية ببوعرفة ، فبمجرد توصل التنسيقية بشهادة وفاتها ، استبشر الراغبون في التعجيل بموتها ، وتجاهلوا أن التنسيقية هي التي : - حققت مكاسب هامة للساكنة في عدة مجالات . - استطاعت أن تؤطر أوسع شريحة من الساكنة . - تمكنت من توجيه نبض الشارع وتأطيره سلميا - عرفت بنضالات الساكنة على المستوى الوطني والعالمي تاسييسا على ذلك فأن عين الصواب هو إن نقدر التنسيقية المحلية لمناهضة غلاء الأسعار والدفاع عن الخدمات العمومية ببوعرفة حق قدرها ، وأن نقوم بقراءة تجربتها المتميزة والفريدة، قراءة موضوعية بعيدة عن الافتراء خاصة وأن كل من صنعوا هذه التجربة لا يزالون في عداد الأحياء .