أثار تقدم فريق العدالة والتنمية بالبرلمان المغربي بمشروع قانون ل"حماية اللغة العربية" حفيظة القوى والفعاليات الأمازيغية، فقد جاءت الخطوة وفق تصور دقيق واستراتيجية تعتمد عدم اثارة "الفوضى المجتمعية" في اعدام مأسسة اللغة الأمازيغية التي أتى بها النضال الأمازيغي ومعه الحراك الشعبي. خطوة جاءت في مرحلة تتسم بصحوة أمازيغية تتجلى في عودة الأنشطة واللقاءات بين مختلف الفاعلين الأمازيغ، وسعيهم الى اعادة الدفء وضخ دماء جديدة في معركتهم النضالية، صحوة تريد كسر الجمود الذي أعقب الدسترة والترسيم الشكليين للأمازيغية.
قد يفهم من التحفظ الأمازيغي "عداء" الناشطين للغة العربية، وهو فهم غير سليم وتأويل غير مؤسس يستند الى أطروحة التعريبيين الذي يسعون جاهدين الى خلط الأوراق وتوظيف تشبث المغاربة بوحدتهم لضرب كل قيم التسامح والتعايش مع التعدد والتنوع، وكذا تخوين خصومهم الأيديولوجيين. إن المغاربة الأحرار يثمنون المجهودات العلمية لتطوير وحماية اللغة العربية من حيث كونها لغة فئة من المغاربة، ولا يجدون أدنى حرج في ذلك، وفي المقابل، يتطلعون إلى مستقبل زاهر للغة الامازيغية عبر معاملتها بالمثل و توفير مناخ سياسي يساعد على الانخراط الحقيقي و الفعال في دراستها وتحليل نظمها قصد تطويرها و تبويئها المكانة اللائقة بها كلغة رسمية لمغرب العهد الجديد.
قبل الخوض في الموضوع أكثر، لابأس من التذكير بالموقف الرسمي والتاريخي لحزب العدالة والتنمية من القضية الأمازيغية، فقد أثارت تصريحات عبد الاله بنكيران - الأمين العام لحزب العدالة والتنمية ورئيس أول حكومة لما بعد الدستور المعدل- حول الامازيغية في أوج الحملة الانتخابية ضجة كبرى في أوساط الناشطين والفاعلين الامازيغ، تصريحات حاول حينها البعض التقليل من قيمتها وأهميتها بالنظر الى الشخصية الاندفاعية لصاحبها، فيما البعض الآخر أبدى تحفظه مما قيل واعتبره حقيقة موقف حزب بأكمله و ليس مجرد وجهة نظر شخصية داخل اطار سياسي وتيار فكري طالما أبدى تحفظه من الانفتاح على القضية الامازيغية ان لم نقل معاداته لها، حيث يعتبرها يعتبرها فتنة وفرقة وعنصرية، موقف كرسته التصريحات التي سجلها المحسوبون على هذا الحزب، والذين لم يفوتوا فرصة الا ورفعوا شعار التهويل والتشكيك في المشروع الأمازيغي، أكثر من ذلك، عملت هذه الجهات على التشويش من خلال فبركة اطارات ذات "توجهات" أمازيغية جديدة.
عودة الى مشروع قانون حماية اللغة العربية، يمكن القول أنه نسخة طبق الأصل لمشروع التعريب الذي سطره الساسة قبل المفكرين سلفا، فهو الشبح الذي يهدد في كل مرة بلادنا وغيرها من البلدان التي تعرف فسيفساء لغوية وثقافية. في المغرب، تعتبر سياسة التعريب من "الاوراش الكبرى" التي دشتنها الدولة مع فجر الاستقلال والتي استنزفت خزينة الدولة بشكل أو بآخر، وإذا كانت الأهداف المعلنة لهذه السياسة تتلخص آنذاك في التخلص من كافة مظاهر الاستعمار الأجنبي عبر التخلص من لغته التي تغلغلت فأضرت بالخصوصية المغربية في جميع مناحي الحياة، فلا ريب أن هناك أهدافا أخرى غير معلنة و استأثر بعلمها مهندسو هذه العملية القسرية التي أضرت بالبلاد والعباد.
يقدم التعريب في مفهومه السياسي على أنه سياسةٌ تَتبَعُها الدَولةُ لتشجيع أن تكون اللغة العربية لغة العلم والعمل والفكر والإدارة. يقول رولان بارت :" أن تموت لغة باسم اللغة نفسها، تلك هي بداية الجرائم المشروعة"، انه حال تناول برلمانيي العدالة والتنمية لمسألة حماية اللغة العربية، التي كانت أهدافه المعلنة تتلخص في الانتصار للغة العربية على المد الفرنكفوني، وهو في الواقع مجرد قناع أتقنت وضعه نخبة من المتشبعين بالفكر الأمازيغوفوبي، ان نية الصراع اللغوي الداخلي هي التي تحرك هؤلاء الساسة التي أتت بهم رياح فساد المشهد السياسي المغربي الى البرلمان.
إن المنحى الذي ينحوه اليوم فريق العدالة والتنمية ما هو الا استمرار لنوايا التيارات الاقصائية منذ سنة 1930 حيث ورد في عريضتي فاس والرباط اللتين أعقبتا صدور ظهير 30 ماي 1930 "عدم إعطاء أي لهجة من اللهجات البربرية أي صفة رسمية و من ذلك عدم كتابتها بالحروف اللاتينية". ويظل التعريب الذي شرع في العمل به منذ الاستقلال والى اليوم، وعلى اختلاف تمظهراته، موجها ضد اللغة و الثقافة الامازيغية و مظاهرها الحضارية العريقة.
ان محاربة اللغة الأمازيغية بقناع حماية اللغة العربية مؤامرة و جريمة في حق الحضارة الإنسانية عموما وفي حق الأصالة والخصوصية المغربية بشكل خاص، انه مشروع أتى به أصحابه لتصفية الفسيفساء اللغوي المغربي وإقرار"وحدة" كاذبة قاهرة بغير وجه حق ولا ضمير إنساني، ودون أي احترام لمقتضيات التعدد التي ينص عليها الدستور المغربي.
ان ما يهم فريق العدالة والتنمية ومعه باقي مكونات التيار التعريبي هو تعريب الشخصية والإنسان المغربي ومسح الذاكرة الجماعية للمواطنين. ان القول بكون مشروع القانون السيء الذكر جاء لصد التغلغل الفرنكفوني في بلادنا ادعاء واه يسهل إبراز بطلانه، خاصة أن مكانة اللغة الفرنسية نجزم أنها لم تتراجع قط إذا لم نستطع أن نجزم بكونها تحسنت بعد كل أشكال التعريب المتواترة، ولعل أول من حافظ و احتفظ للغة الفرنسية بمكانتها المرموقة في النسيج اللغوي الوطني هم من يرفعون اليوم شعارات حماية اللغة العربية بل ويربطونه بالوطنية والإسلام لاستمالة البسطاء من المغاربة إلى صفهم. نخبة أرادت لبنيها أن يتعلموا في مدارس البعثات الثقافية الأجنبية و بلغة موليير وشكسبير، في حين تحاول جاهدة أن توهمنا أن حربها غير المعلنة على اللغة الأمازيغية ما هي الا غيرة على الهوية والخصوصية المغربية.
إن المغاربة الأحرار،إيمانا منهم بالاختلاف، وغيرة منهم على الهوية المغربية واللغتين الوطنيتين سيظلون مع كل تطوير علمي يجعل لغتينا الوطنيتين في مصاف اللغات العالمية، مع تأهيل و توظيف إمكانات هاتين اللغتين ليضطلعا بدورهما الأساسي والطبيعي داخل المجتمع بعيدا عن كل أنانية اقصائية استئصالية تنتصر للغة دون أخرى أو مسخ و طمس مظاهر الحضارة المغربية التي تضرب بجذورها في تاريخ الإنسانية.
ان ما لا يستسيغه كل ذي ضمير حي هو أن يطل علينا رجال سياسة، تلك الفزاعات الفكرية، ليحاولوا جاهدين تمرير مشاريع قوانين تفرض اللغة العربية بصورة عمودية وتجرم التعامل بغيرها متناسين أن المغرب متنوع ومتعدد، ساسة لا يدخرون جهدا في محاولة افراغ ترسيم اللغة الأمازيغية من أي معنى، ففي الوقت الذي يتماطلون في اصدار القانون التنظيمي لتفعيل رسمية اللغة الأمازيغية، تجدهم يتحمسون لاستصدار قانون حماية لغة حالها أحسن بكثير من حال شقيقتها التي لا يتوانون في وصفها ب"الضرة"، في أمقت صور التعصب والعجرفة والجهل بحقيقة المغرب المتنوع، وفي أحلك مظاهر احتقار الغير ورفض الاختلاف.
وجدير بالاشارة أن مثل هذه الخطوات السياسوية للحزب الاسلامي أو غيره بشير خير ومؤشر على قوة اللغة الامازيغية وتهديدها لمصالحهم الفردية، فالضربات لا توجه للكائنات الميتة، انها خطوات تبين وبالملموس مدى افلاس هذه التيارات فكريا وسياسيا، وهي بذلك تحاول اختلاق صراعات جانبية في النقاش العمومي بعد فشلها الذريع والبين في حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية للمواطن المغربي .
لقد آن الأوان أن تبلغ الدولة المغربية سن الرشد في تعاطيها مع المسألة اللغوية، هذه الأخيرة يجب أن تخضع للدمقرطة والانصاف والمساواة بين اللغتين الأمازيغية والعربية. ان مأسسة القطع مع التوجه الاقصائي في المسألة اللغوية والذي يمثله التيار القومي والديني ضرورة سنؤدي جميعا ثمن كل تأجيل. فالخزعبلات التي أتت بها رياح "الشركي" الناصرية والبعثية نالت من ضعاف النفوس، ولا يصفق لخسائرها اليوم الا من هم في مأمن من تبعاتها، لقد آن الأوان أن نرسم معالم التنمية البشرية الحقيقية التي لا يمكن تصور بلوغها ما لم نحترم الوعاء الثقافي والتعدد اللغوي المغربي.