تحل هذه الأيام مناسبة الاحتفال بذكرى مرور خمسة وعشرين سنة على تأسيس اتحاد أريد له أن يكون تعسفا "اتحاد المغرب العربي" ، هي إذا مناسبة سانحة لتقييم ربع قرن من تأسيس اتحاد ولد ميتا لكونه تأسس بناء على فلسفة الإقصاء والانتصار للقومية الضيقة، ولا أحد سيجادل في كون الحصيلة – إن وجدت أصلا - لم ترق إلى مستوى طموحات شعوب دول شمال إفريقيا، مما يجعل مسألة التسريع بترميم هذا الصرح الإقليمي وفق تصور وفلسفة ومنظور جديد أمرا ملحا، خصوصا أن التحديات السياسية والثقافية والاقتصادية والحقوقية بعد الربيع الديمقراطي ازدادت وتقوّت.
إن فشل ما يسمى باتحاد المغرب "العربي" يعزى إلى كونه جاء استجابة لرغبات نزويّة غير مؤسّسة لحكام مهووسين بجنون العظمة، ومن تبعهم في ضلالهم من القوميين الغاصبين لحقيقة المجتمع المغاربي وتاريخه، شرذمة جمعتهم المزاجية وتجاهلوا الانتماء المشترك الذي يجمعهم مع غيرهم من الأطياف الفكرية والإيديولوجية، فاصطنعوا لشمالنا الإفريقي هوية ما أنزل الله بها من سلطان .
لقد كان الفكر العفلقيّ البعثيّ الناصريّ الأرسلانيّ حقيقة أكبر نقمة على شعوب شمال إفريقيا، والتي تميزت عبر التاريخ بخصوصيتها رغم أن النذر القليل من أبنائها المغرّر بهم لا يزالون يعيشون الوهم، مدافعين عن أطروحة فرّقت الناس عبر الأقطار عوض توحيدهم، أطروحة بئيسة تحكم على كل من يقف أمامها رافضا بالإعدام المادي والمعنوي. وكم كنا ننتظر من هذه الأبواق المزعجة أن تكفّ عن عويلها، وتعتبر من دروس الربيع الديمقراطي وما أتى به، إلا أنها لم تملّ من توهّم مغرب "عربي".
لقد كان التطور الملحوظ في الوعي الشعبي بالشق الهوياتي وضرورة مراجعة الأوراق، مصدر قناعة مغربية بضرورة القطع مع الولاء الأعمى للإيديولوجية المشرقية البعثيّة المهترئة، لذلك أقدم الدستور المغربي على خطوات مقدامة وتاريخية، وهو "يعترف" بالمكون الأمازيغي الأمّ في الهوية المغربية و"يجعل" من اللغة الأمازيغية لغة رسمية، و"يوظف" تسمية المغرب الكبير بدلا عن الوصف الإقصائي لوحدة شمال إفريقيا، متداركا بذلك ثلاثة أخطاء فادحة عمّرت طويلا.
رسميّا، إن المملكة المغربية وانطلاقا من كون الدستور المغربي الجديد الذي تم إقراره قد حذف عبارة "المغرب العربي"، مدعوة إلى رفع ملتمس إلى أعضاء الاتحاد، قصد تغيير اسم وأرضية بناء هذا التكتل الإقليمي، وبث الروح فيه من جديد من خلال ضخ دماء جديدة تستجيب للتحولات الكبرى التي فرضها الربيع الديمقراطي. جماهيريا، يتعين على المجتمعين المدني والسياسي وكل فرد يدعي غيرته و تشبثه بهذا الوطن الكفّ عن توظيف هذه العبارة الإقصائية التي تعتبر مساسا أخلاقيا بحرمة التنوع التي ما فتئنا نتغنى بكونه سمة شمال إفريقيا.
لقد كشف الربيع الديمقراطي تفشّيَ الشذوذ الفكري وتجذر الدعارة الإيديولوجية في مجتمعات شمال إفريقيا، وإلا كيف نفسر إصرار بعض التيارات على مغالطة نفسها واختزال مصير شعوب المنطقة في الولاء و الطاعة لمرجعيات أضحت في خبر كان؟؟؟ إنها فوبيا قاتلة وخبيثة تستلزم العلاج النفسي الآني لمُنظريها.
اليوم وليس بعده، يجب أن يدرك الجميع - وآن للمغرّر بهم أن يتداركوا - أن ضرورة بناء اتحاد شمال إفريقيا حتمية لا محيد عنها، أن يدرك الجميع أن شمال إفريقيا لكل أبنائه، ولا يحق لأيّ كان أن يجبرنا على التطبيل و التزمير لأي فكر إقصائي قومي فاشي معدٍ أتت به العواصف العفلقية المشؤومة، لنقل وبكل صراحة إن الأوان قد آن إذا وأكثر من أي وقت مضى للقطع مع الأباطيل التي طالما عشنا فيها خضوعا لإرادة طغمة متجاوزة ومتقادمة، وبالتالي إعلان التصالح مع الذات، مع التاريخ، ومع واقع شمال إفريقيا الجديد وتاريخها وجغرافيتها.
إننا باعتبارنا سكان شمال إفريقيا، نتطلع إلى اتحاد حقيقي، متين الأسس ومتعدد الآراء والأصوات، ملؤه التعايش والتسامح وسمو القيم الإنسانية، شمال إفريقي يؤمن بالتاريخ وبالمصير المشتركين، نحيا فيه جميعا بكرامة وفي كرامة ونصحح ما أفسده "عقيد" معقد اشترط القومية الضيقة، فمسخ السهل والجبل وعرّب المحلّ والأهل واصطنع أمورا واهية لخلق صراعات مفتعلة استنزفت طاقتنا وخلقت عداوات خلّفت جروحا لن تندمل في الأمد القريب. إن شمال إفريقيا قوي بتنوعه، قوي بفسيفسائه الفكرية والإثنية والمرجعية، إن إيماننا بالانتماء إلى هذا الوطن الكبير يجعلنا وبدون استثناء نؤمن بالاختلاف والتعدد، يجعلنا نصنع التغيير ونكون في مستواه.
إن هوية المغرب الكبير لم ولن تكون باللغة أو العرق، إنها هوية الأرض التي لا تنطق لكنها لا تموت، ألم يحِن لحكّامنا، مفكرينا، ساستنا، مثقفينا وعموم شعبنا الشمال إفريقي أن يقول بصوت واحد: "كفى من المسخ... كفى من المغالطة... كفى من الطمس..." هويتنا الشمال إفريقية هي الكفيلة بضمان وحدتنا وتماسكنا وتكتلنا. لا نريد إيديولوجيات مُستقدَمة دخيلة، لا للشرقنة ولا للتغريب. لنمدّ أيدي بعضنا للبعض و نقول معا: عاش شمال إفريقيا،عاش شعب شمال إفريقيا العظيم، سُحقا لدعاة المسخ والولاء المقيت لإيديولوجيات غربية غريبة عنا في كل شيء، وأخرى شرقية تعاني في عقر دارها .