عندما كان حزب العدالة و التنمية في المعارضة, كان خطابه قائما على المظلومية و الدروشة و "التمسكن",عامة الناس كانوا حينها متعاطفين معه, فكانوا يقبلون دروشته لما كان يروج لما مفاده أنه "حزب مستهدف" و غير مرغوب فيه لأنه جاء بغرض الإصلاح و لا شيء غير الإصلاح و محاربة الفساد, وهو الأمر الذي لم يرق المفسدين, فظلوا يحاولون بكل ما أتوا من قوة الوقوف في وجه"حزب الله" و استغلال كل فرص تتاح لهم للحيلولة دون وصوله إلى الحكم, إلى درجة أن لحسن الداودي القيادي في الحزب قال في حوار مطول مع جريدة المساء آنذاك, إنه كان من المفروض أن يقود حزب العدالة و التنمية الحكومة منذ سنة 2007, لكن التزوير الذي حصل حينذاك حال دون ذلك.
الآن و قد وصل حزب البيجيدي إلى الحكم بعد انتخابات نزيهة حسب منطق الداودي, الذي كان يقول ما لم يصل حزبنا إلى الحكم فالانتخابات مزورة, و العكس صحيح, أي أنه ما دام حزبنا قد حصد "الأغلبية" فالانتخابات نزيهة و شفافة!
قلنا الآن و بعد وصول "المصباحيين" إلى سدة الحكم, لا شيء من خطابهم تغير, فما زال تكتيكهم هو التباكي و تعليق فشلهم في كل المجالات على الآخرين, و الدليل على ذلك أن رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران, قد خرج بنظرية فريدة لم يعرف لها التاريخ سابقة و هي "نظرية التماسيح و العفاريت" الذين يعرقلون حسبه مسيرة الإصلاح التي جاء بها هو و حزبه, دون أن تكون له الجرأة يوما لتحديد من يكون هؤلاء العفاريت و التماسيح بالضبط؟ و ما هي العدة التي أعدها لمحاربتهم؟ وهل الدروشة التي كانت مقبولة منه عندما كان في المعارضة, "أيام لا حول له و لا قوة" مازالت صالحة بعد أن صار هو الآمر الناهي؟ .
ما يتجاهله بنكيران أن المغاربة لا يحتاجون لمن يذكرهم بوجود التماسيح و العفاريت, فهم يعرفون كبيرهم و صغيرهم بوجود هذه التماسيح و العفاريت و الفيلة و الضباع و حتى و الديناصورات, ولكن ما يطلبونه هو محاربتهم و انقراضهمو أن خطاب المظلومية لم يعد "واكل", فإذا لم يستطع رئيس الحكومة أن يدفع الظلم عنه و عن حزبه - إن كان فعلا هناك ظلم - فأنى له أن يدفعه عن الشعب؟ .
الطبيعي و العادي أن الشعب هو الذي يجب أن يلوذ برئيس الحكومة ليرفع عنه الظلم, ولكن العكس هو الصحيح في المغرب, فبنكيران مازال يواصل نفس الأسلوب محاولا الظهور بمظهر "الدرويش" و المصلح المحاصر من كل جانب, والذي ينتظر الجميع هفواته للانقضاض عليه! .
و إضافة إلى استمرار حزب المصباح في توظيف خطاب الدروشة و المظلومية, حتى إن المرء لا يفرق بعد هل هذا الحزب هو الذي يحكم أم أنه ما يزال في المعارضة, يوظف الحزب الحاكم تكتيكا آخر قائما على المزايدة على الخصوم بالغيرة على الوطن و تبرير كل سياسته التقشفية التي لا تزيد الوضع الاجتماعي إلا احتقانا بأنها, إنما جاءت نتيجة لغيرته على الوطن و مصالحه و مصالح المواطنين, يعني أن الزيادة في أسعار المحروقات و قمع الاحتجاجات و الرفع من سن التقاعد و الاقتطاع من الأجور الهزيلة...كلها في صالح الشعب وفق منطق بنكيران و حزبه! .
و حتى يؤكد بنكيران أنه الغيور الأكبر على الوطن دون غيره يلجأ أيضا إلى تبرير كل ما يقوم به من حرمان الناس من حقوقهم بالأزمة المالية التي يمر بها المغرب.
و هنا نطرح السؤال: هل المغرب يمر فعلا بأزمة مالية؟ و حتى إذا صح ذلك, فهل هذا مبرر لمنع الناس من نيل حقوقهم المشروعة؟ .
*هل هناك أزمة مالية في المغرب؟
في إطار نظرية المؤامرة التي ظل يروج لها بنكيران و حزبه منذ وجودهم في المعارضة حتى أصبحوا متحكمين في مصير البلاد و العباد, لا تتوانى الحكومة و من يجري في فلكها في اتهام السيد أحمد لحليمي المندوب السامي للتخطيط بنشر إحصائيات مزورة الهدف منها - حسب أتباع بنكيران - النيل من الحكومة و التقليل من أهمية "إنجازاتها", بالنظر إلى كون لحليمي من القياديين السابقين في حزب الاتحاد الاشتراكي المعارض, وبالتالي فكل ما يصدر عن مندوبيته لا يعدو أن يكون تحريضا من حزب الوردة ضد المصباح و الحكومة التي يقودها, ويلاحظ هنا أن الحكومة و من معها يتعاملون مع إحصائيات لحليمي بنفس منطق تعامل الداودي مع نتائج الانتخابات(الانتخابات ليست شفافة إلا إذا فاز فيها البيجيدي و الإحصائيات كذلك ليست نزيهة إلا إذا جاءت في صالح الحكومة)!! .
مع صدور التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي و الذي أفاد بأن المغرب يتمتع بوضع مالي مريح و بسيولة مالية لا تتوفر لكثير من البلدان, سارعت حكومة بنكيران لاستغلاله(أي هذا التقرير), لتوجيه ضربة للمعارضة و لكل من يشك في "إنجازاتها"و تحديدا لأحمد لحليمي و مؤسسته التي ترتاب الحكومة في نزاهتها و استقلاليتها.
و لكن الأمر الذي تغافل عنه بنكيران و حكومته بخصوص التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي, أنه حجة عليه لا حجة له, فهو الذي يزعم أن كل إجراءاته و سياساته هي نتيجة ما تمر به البلاد من أزمة مالية, ليأتي هذا التقرير و يكذب مزاعم بنكيران, بل و الأكثر من ذلك ليؤكد أن المغرب في وضع مالي مريح.
ارتباطا بما سبق, فمن الأمور الغريبة, أنه عندما كانت أعتى الاقتصاديات في العالم ترزح تحت نير أزمة اقتصادية خانقة, خرج علينا المسؤولون ليقولوا بأن المغرب لا خوف عليه من هذه الأزمة, و أنه بعيد كل البعد عنها, و الآن و قد بدأت هذه الاقتصاديات تتعافى من نكستها شيئا فشيئا, يحصل العكس في المغرب, و يخرج علينا بنكيران في كل يوم ليعلل كل قراراته بأنها مردودة إلى الأزمة المالية التي يعيشها المغرب! .
كل الذي تقدم يبيبن بالواضح أن التذرع ب "الأزمة المالية" مبرر واه لتمرير سياسات لم تجرأ أي حكومة من قبل على تمريرها, فالمغرب غني بثرواته, غني بمعادنه و بحاره,غني بفلاحته, غني بثروته البشرية قبل كل شيء, و المشكل في سوء توزيع هذه الثروات التي تستحوذ عليها أقلية قليلة في مقابل الاستمرار في تفقير أغلبية مغلوبة على أمرها.
* لنفترض أن المغرب يعاني من أزمة مالية,فما الحل؟
حتى و لو سلمنا بأن المغرب يعاني من أزمة مالية, فهل الحل في رفع الأسعار و حرمان الناس من حقوقهم الاقتصادية و المادية؟ .
الجواب عن هذه الأسئلة لا يحتاج إلى كثير من الجهد, لأن الإنسان في جميع الأعراف و القوانين لا يمكن أن يتحمل تبعات أخطاء ليس هو المسؤول عنها و لا يد له فيها مصداقا لقوله تعالى" و لا تزر وازرة وزر أخرى", و بالتالي فحتى إذا كان المغرب يعاني من أزمة مالية, فالحل ليس بتفقير كدح الشعب و رفع أسعار معيشتهم, ليس فقط لأنهم غير مسؤولين عن هذه الأزمة, بل الأكثر من ذلك أن تفقيرهم لن يحل الأزمة, وإنما سيزيد من تأزم الأوضاع و ارتفاع درجة الاحتقان الشعبي.
الحل بيد الحكومة, وهي أدرى بالسياسة التي يجب أن تنهجها للخروج من هذه الأزمة, فلو كانت لبنكيران غيرة حقيقية على الوطن, ولو كان فعلا يأثر مصلحة الوطن على مصلحته الشخصية و مصلحة حزبه, لبدأ بنفسه و لتبرع بجزء من راتبه الضخم خدمة لمصلحة الوطن, ومن تم يفرض أو على الأقل ينصح وزراءه البالغ عددهم أكثر من 30 وزيرا بالإقدام على نفس الأمر, و كذا على البرلمانيين و الموظفين السامين الذين يعدون بالمئات, ولكم أن تتصوروا كم من الأموال ستربح شهريا من هذا السلوك الوطني.
لو أقدم بنكيران على ذلك لدخل التاريخ من أبوابه الواسعة و لانحنى له الجميع تقديرا و احتراما, و لبرهن بالفعل على أنه وطني غيور ديدنه خدمة الوطن و مصالحه, أما و الحال عكس ذلك تماما, حيث يتمادى في سياسته التفقيرية, مقابل السكوت عن فساد المفسدين و رهن المغرب بيد المؤسسات المالية العالمية من خلال الاقتراض المتزايد, فلا شك أن عواقبه المستقبلية ستكون كارثية.
*حرمان آلاف الأساتذة من الترقية كنموذج لحرمان المواطنين من حقوقهم بمبرر "الأزمة المالية".
لعل المثال الصارخ لحرمان آلاف المواطنين من حقوقهم المادية و الاقتصادية بذريعة ما تمر به البلاد من أزمة, هو ملف الأساتذة المقصيين من الترقية بالشواهد, ففي كل مرة تثار فيه هذه القضية في البرلمان يسارع بنكيران إلى تبرير عدم الاستجابة لهذا الملف العادل و المشروع للآلاف من كدح هذا الوطن, بالأزمة المالية قائلا بالحرف"منين غادي نجيب لهوم فلوس الترقية"؟ فهل فعلا الذي يمنع بنكيران من الاستجابة لهذه الفئة المظلومة هي الأزمة المالية مع أن وزيره في المالية سبق أن اجتمع بالمعنيين و أكد لهم أن المشكل ليس ماليا؟ و هل هذا المبرر مقنع أصلا؟ و من أين أتت أموال الزيادة للقضاة و رجال القوات المساعدة(اللهم لا حسد)؟ .
نفس المبرر إذن يلجأ إليه بنكيران لتبرير سياسته الفاشلة و منع الناس من نيل حقوقهم, و الواقع أنه حتى و لو افترضنا بصحة هذا المبرر- كما قلنا سلفا -, فلا يمكن تحميل أوزاره للأبرياء, فبدل أن يتجرأ بنكيران على تقديم الذين أوصلوا البلد إلى هذا الحضيض تجده يستأسد على الضعفاء من الشعب و يعتبرهم الحائط القصير الذي بإمكانه القفز عليه.
ملف آلاف الأساتذة خير مثال نصوغه للاستدلال على السياسة البنكيرانية في مواجهة الأزمة,فهو يعتبر أن عدم الاستجابة لمطالب هذه الفئة العريضة التي تنتظرها آلاف الأسر و العائلات سيحل الأزمة!! .
فهل يا عالم حرمان أستاذ من 500 درهم أو 600 درهم أو حتى1000 درهم شهريا,هو ما سيحل الأزمة إذا افترضنا وجودها؟
هكذا,فبدل أن يتوجه بنكيران لإيجاد حلول واقعية,يتمادى في تفقير الفقراء,والصحيح هو أن تكون له الجرأة و الشجاعة على تقديم المفسدين للمحاكمة و الشركات الكبرى المتهربة من أداء الضرائب,هذه هي الحلول الواقعية للأزمة,أما مواصلة التقشف و الاقتراض فعواقبه ستكون وخيمة لا على الأجيال الحالية فحسب و لكن على الأجيال القادمة التي لا ذنب لها فيما يحصل الآن.
بقي أن نشير إلى أن التضامن واجب وطني مقدس في حالة الكوارث الطبيعية و الأزمات,ولكن عندما يبدأ بنكيران و حكومته بالتضامن عن طريق التخلي عن جزء من الملاييين التي يتقضونها شهريا,حينها سيكون الفقراء من المتضامنين.