إذا كان الدارسون قد ذهبوا إلى أن الشعر تجربة وجدانية تخرج من رحمها القصيدة، فإن المكاشفة هي تعبير عن أسرار ذلك المخاض الذي عاشه الشاعر، هي بوح بما اعتمل في نفسية الشاعر فأنتج المخاض الذي أعطانا القصيدة، ثم إن الأحلام هي خير وسيلة لوصف تلك الأسرار.
"أرخبيل الأحلام" سفر للذات الحالمة في لحظات ضعف تبحث عما يدفئها، ينقلها من واقع موبوء إلى آخر مأمول، وأثناء رحلة السفر هذه تتعاورها لحظات مختلفة بين الانكسار والانتصار في واقع تعمل على إيجاده شعرا، بعد أن عز تحقيقه فعلا، مما يخلق توترا يتملك الشاعرة، فتجود قريحتها شعرا مفعما بالأحلام الوردية، تقول الشاعرة:
أسافر في اللازمان
وأُبعث من منفايَ
لأعزف لحنا غجريا
يغازل الحيارى
وأنثر أحلاما
تضاهي الطور أو عرفات
والملاحظ أن الشاعرة لم تستطع التحرر من عقلها الذي كان يتدخل في الكثير من الأحيان ليوجه عاطفتها.
فبدت كمن يريد السباحة غير أنه يقف على مبعدة من الماء، تتقدم ببطء ويقشعر جسدها رهبة من الغرق ومن البرودة، حتى إذا أقدمت واقتحمت جاءت بالعجب العجاب، غير أنها لا تنفك تولي مسرعة هاربة من اليم، وبين الإقبال والإدبار تصاغ شاعريتها، فكلما أقبلت إلا وكانت نصوصها عميقة الدلالة والشاعرية، وكلما أدبرت بتوجيه من العقل إلا وكانت نصوصها على المشارف، وخير مثال على ذلك النموذجان التاليان:
سفر من نوع آخر:
نداء أنثى:
وهو ما يؤشر على أن قصائد الديوان لا تنتمي إلى مرحلة واحدة، وإنما هي مراحل كانت خلالها شاعرية الشاعرة تتشكل، فجاءت قصائدها مختلفة من حيث العمق والبناء.
العنوان:
إن أول ما يواجهنا ونحن نهم بالإقدام على مغامرة ولوج عالم هذا السفر الشعري، عنوانه، الذي جاء شاعريا بمكوناته ودلالته:
أرخبيل: مجموعة من الجزر المتناثرة هنا وهناك.
الأحلام: ج حلم، دلت على التأنيث، فهي حالة شرود يتفلت فيها الإنسان من سلطة العقل، فيسبح في عوالم يمتلك خلالها ما لم يستطعه في الصحو.
ويمكن أن نذهب ومن خلال تتبع دلالات النصوص التي احتضنها هذا السفر، إلى أن الشاعرة كانت تنتقل بين يابسة يحتضنها الماء إلى أخرى، وكانها نحلة تنتقل من وردة/حلم إلى أخرى تجمع الرحيق لتعطينا عسلا لذة للشاربين، وكذلك الأحلام تعطي للحياة مذاقا مستساغا، ألم يقل الشاعر العربي:
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
وما الأمل إلا أحلام يعيد بها الشاعر صياغة واقعه.
هاجس الديوان:
لعل بؤرة الديوان هي السؤال الجوهري: ما جدوى الإنسان؟ فجاء الديوان بحثا عن المعنى في هذه الحياة، إذ الإنسان بدون معنى يصبح بدون قيمة.
لذلك كانت الشاعرة مهووسة بالبحث عما يعطي للحياة معنى، ينقلها من صورة كئيبة إلى أخرى وردية، مطيتها في ذلك قصيدة تحررت من كل القيود الخليلية، تقول:
أركب صهوة القصيد
وأنعم بدفء الكلمات
أنفض غبار الشطر
أتحرر من أغلال الروي
ألج ميناء المعاني
وهي شروط تراها الشاعرة أساسا لمعانقة الأحلام التي نمت وكبرت واتسعت، وهو ما تكشف عنه قصيدة ديباج حلم:
حلمت بأن أضمد الجراحات
وأخرج من دهليز التيه
وبأن ألج جنة السعادة
حلمت بأن أطير كالفراشة...
ولم يقف الحلم عند هذا المستوى بل إنه تطور وكبر حتى وصل درجة المستحيل:
حلمت بأن يرقص الزئبق بين أناملي
وحلمت بأن يصير الأسود أبيضا
وحلمت بانقراض قاموس الأحزان
لتكون خاتمة الحلم صدمة عنيفة:
لكن هيهات...خبا حلمي وانكسر
تقرر بعدها الشاعرة السفر الصاحي والترحال الواعي سعيا من أجل التحقق الشعري للأحلام:
رفضت بعدها أن أنام
لكي لا أستسلم لسلطان الأحلام
فيشد نورس قلبي الرحال
عساني أحقق ولو ذرة من تلك الآمال
قرار عدم الاستسلام للأحلام من أجل السفر تحقيقا لجزء من تلك الآمال، وما الآمال إلا أحلام مؤجلة.
الحلم محاربة للوهم:
لأن الشاعرة تحارب الوهم الذي يصير عنكبوتا ينسج خيوطه على الإنسان حتى إذا استبد به امتص رحيقه/أحلامه، فتكون نهايته، تقول:
تنعكب غدائر الوهم بأعماقي
كفراشة تمتص
رحيق الحياة
لذلك تقرر الشاعرة السفر مخترقة الآفاق:
من هنا وهناك
أسافر في اللازمان
وتقول كذلك:
أنا مسافرة إلى أرض أجد فيها دوائي
فيغدو السفر رحلة
السفر رحلة صوفية:
الأحلام سفر في أعماق الذات المشغولة بتحقيق ما عجزت عنه على أرض الواقع، أو قل هي جدار يحتمي به الإنسان عندما يصطدم بواقع يجده أقوى منه، وليضمن توازنه واستمراره، يقوم برحلة حلمية يصنع خلالها فتوحاته التي قد يحققها على أرض الواقع أو على الأقل يجعلها هدفا يعيش من أجله.
لذلك نجد الشاعرة في هذا الديوان رحالة، تبحث هنا وهناك عما يضمد جراحاتها الوجدانية، ويطمئن نفسيتها المكلومة والمؤرقة بهموم تنأى الجبال بحملها، هموم تجمع الذات الفردية بالذات الجماعية، وهو انشغال بالهم الإنساني، فهي تقوم برحلة صوفية تتدرج عبرها في مدارج الرؤية والإدراك ثم البصيرة، تقول الشاعرة:
رأيتك مع اخضرار الزرع في الحقول
أدركتك في انبلاج الصبح
أبصرتك مع زخات المطر
بك أتنفس
محطات المكاشفة تبدأ من العين ثم العقل وأخيرا القلب، لتنتهي بالحلول، فهي الروح التي تعطي لحياة الشاعرة استمرارها.
وهي رحلة تتأسس على مقامين:
الأول: مقام المعاناة:
مقام لا بد أن تعيشه الشاعرة حتى تتذوق طعم الواقع، تقول:
الريح والغبار يوقظني
وأنا الحالمة برومانسية أميرات الماضي
لا أملك إلا ذاكرتي الوسيمة
يرافقني سيزيف
وتقول:
مشردة في السموات
تتقاذفني أسطح الأزمنة
وتلقي بي في متاهات الآفاق
وتقول:
قلبي يعتصر كمدا على قومي في دنيا الفناء
ينزف تعبيرا للعروبة عن الولاء
ليصوغ، حسرة، دمعة ورثاء
فهي شرط أساس للارتقاء والتطهر:
ينفطر قلبي من كياني ليرقى إلى السماء
الثاني: مقام الرؤيا:
مدرج من مدارج السالكين، عبره تتوضح الرؤية، وينفذ الرائي إلى جوهر الوجود، تقول:
رأيت في دهشة
أمة ... تغرق في البحر
جثثا عربية تتحلل في نقطة حبر
تقذف بالقيم في مزبلة التاريخ
الأمر الذي سيمكن صاحبه من معرفة سبب الخروج من الجنة، ألم يخرج منها الإنسان بسبب فاكهة؟ وهي نفسها في هذا العصر تقذف بالإنسان في متاهات العتمة والظلمات، تقول:
فاكهة الإغواء في كل الساحات
معانقة لسرداب الظلمات
غير أنها رحلة مشروطة – حسب الشاعرة – بشروط، تعرضها الشاعرة عبر متنها الشعري، كما يلي:
-
العودة إلى الذات:
معرفة الذات والإنصات إلى همسها، دبيبها وحشرجاتها، شرط لبدء طقس الحلم، تقول:
انشرقت على ذاتي
لألمس النجوم في السماء
وأقبض بين أصابعي ذرات الهواء
-
الحب والعشق الإلهي:
فالتعلق بالسماء من أجل التحرر من أدران الأرض، شرط للانطلاق والتحرر، أليس الطيران تخلصا من جاذبية الأرض، والأحلام تخلصا من وطأة الواقع، تقول:
أناجيك في ظلمة الليالي
بحبك تنتشي روحي التعيسة
وتزهر حقول عمري الكئيب
-
التخلص من كراهية الناس:
وهو أمر يرتبط بالسابق، فحب الذات الإلهية يقتضي محبة الناس، وحبهم يتطلب التعامل معهم ببراءة، مما يقتضي العودة إلى زمن البراءة، زمن الطفولة، يقول:
أبحث عن غيمة
فضية تحملني
إلى زمن الطفولة
تعيد لي دميتي الغجرية
فيصبح الماضي تبعا لذلك مرتعا لكل جميل، يجعل منه محرابا يكتسب قدسيته ورمزيته:
أعانق محراب ذاكرتي
-
صفاء القلب:
لا يمكن للقلب أن ينفذ إلى عمق الأشياء ما لم يكن صافيا خاليا من الشوائب، فالصفاء شرط لوضوح الرؤيا، واستكناه المعنى، تقول:
أبحث عن قلب
حنون، لا تغشاه الكآبة
ينظر في عيني ويقرأ الكتابة
خصوصا وأن الصفاء يمنح قبح العالم جمالا وبياضا.
محطات الرحلة:
وسيلة سفر الشاعرة قصيدة تتلون تبعا لمحطات الرحلة، وعبر هذا التلون تصنع الشاعرة واقعا شعريا تتحقق فيه/به أحلامها،
-
القصيدة بحر، والكتابة سباحة:
تقول الشاعرة:
إن كنت سباحة فهذا بحري
عانقي النزيف
ولا تعجبي من الظروف
فمع الخريف
تنسج أحلى الحروف
تخلص مما علق بالذات، استعدادا للمخاض والمعاناة، ومعانقة النزيف الشتوي، من أجل التطهر واستقبال الربيع، ربيع الأحلام. تقول:
ظمآنة إلى مطر
يغسل تجاعيد حياتي
-
القصيدة اجتثاث:
هَوْلُ الواقع جعل الشاعرة تنزوي متأملة، تقول:
لم أضرب لها موعدا
لكن ركنت إلى أقصى الأركان
فجاءت القصيدة، لتخرجها من أرض الإنزواء إلى ساحة المشاركة والفعل، تقول:
يجتثني من أقصى الأركان
ولنلاحظ كيف أن الشاعرة عبرت عن شدة هذا الأمر من خلال استعمالها فعل "الاجتثاث" مما يعني أن الأمر ليس بالسهولة المتوقعة، يحتاج إلى صبر، إذ هو مخاض تكون نتيجته حياة أخرى.
-
القصيدة حياة وولادة:
المخاض الذي عاشته الشاعرة يجعل من القصيدة/الكتابة ولادة جديدة وانبعاثا آخر لها، وكأن الحلم الذي تتدثر به الشاعرة عنوان لميلاد جديد، تقول:
تنضج الأزهار في قلبي
وينساب ماء الجدول في عروقي
ويعزف أرخبيل حياتي مقطوعة
تنعشني
وتقول:
تذكرني بأني صحوت من مماتي
بك أتنفس
وتقول أيضا:
بحبك تنتشي روحي التعيسة
وتزهر حقول عمري الكئيب
-
القصيدة قرار:
سأشد الرحال إلى وهم دربي
أسيرة، أبحث عن ظل نخلة
إحالة على قصة مريم عليها السلام عندما جاء المخاض، فآوت إلى جدع النخلة.
-
القصيدة صياغة للواقع الجديد:
تغدو الأحلام صياغة وترتيبا جديدا لأشياء العالم، فيشارك الكل في الملحمة، تقول:
قصيدة مرايا الهذيان
-
القصيدة فتح:
يفرح بفتوحاته الوجدان
-
القصيدة احتفال:
بعد الفتح وتحقيق المبتغى تأتي محطة الاحتفال إيذانا بنهاية المعركة وإسدال ستار المواجهة بين الشاعرة والوهم.
أسدلت الستائر
أشعلت الشموع
سنحتفل معا
قالت لي: حان وقت البدء
بداية حياة جديدة، وردية الألوان، قرمزية، تجعل منها حلما يستحق أن يعاش بعد أن يستفيق الإنسان على وقعه الكئيب.
-
القصيدة فعل/سلاح مقاومة:
إن الرحلة التي قامت بها الشاعرة جعلت منها تصل إلى مرحلة اللاعودة، تلك المرحلة التي أصبحت فيها القصيدة سلاحا ناريا، تصوبه اتجاه القبح الذي يعتري العالم، معبرة بذلك عن مدى إصرارها على المواجهة، لأنها سبيل الوجود والبقاء، مواجهة أسباب الفناء، مواجهة ما يسلب الإنسان كرامته وإنسانيته، فتصبح القصيدة تبعا لذلك طلقة نارية:
عند انتصاف الليل
تنطلق طلقات الأشعار
مما يجعل من القصيدة فعلا مقاوما لكل معاول المحو والاندثار، فعل يصبح فيه المقاوم/الشاعرة خطرا حتى على نفسها، فأثناء حرب العصابات التي تخوضها(المواجهة ليلا وليس نهارا)، تصبح أشعارها قنابل موقوتة قد تنفجر وتؤدي صاحبتها، تقول:
قصائدي المفخخة تخيفني
تذيقني – قبل انفجارها – صنوفا من العذاب
وما القنابل إلا أحلامها التي حرمت عليها، تقول:
لكن هيهات صدمتني جمارك واقعي
وصودرت لأني لا أحمل ترخيصا لتأثيث
ذاكرتي فكنت كبش الفداء
الفدائي الذي يحمل بين جوانحه قنبلة/أحلاما ووجعا ناسفا، تفقد العالم تنظيمه:
وجعي قنبلة ناسفة
في متاهات المدن
ولا تنس الشاعر أن تذكر كل الحالمين أن للحلم ضوابط وحدودا، عليهم أن يشتغلوا داخلها وإلا انقلبت إلى فعل متجاوز، تقول:
للحلم قواعد وأوطان
للحب أشواق تبيحها الأديان
للثورة أمجاد وفرسان
للسلم دروب وشجعان
الصورة الشعرية:
جاء ديوان الشاعرة مفعما بصور شعرية عميقة الدلالة، وكشفت عن قدرة على صياغة الكلمة وإعادة تشكيل اللغة بما يسمح بنقل الهواجس وتصويرها، وسأقف عند ثلاث صور.
الأولى، هي قولها:
جواد قلبي يعشق الفروسية على الورقة
يسكب أحاسيسي التواقة بحوافره
يصول ويجول بين السطور
تصور شاعريتها، وخلال هذا التصوير تبدو شاعرية الشاعرة على سجيتها، تتبع أحاسيسها، لا تنضبط لقيد أو شرط، وإنما هو الإحساس يختار له قالبا يلائمه.
الثانية، وتصور بشكل رائع جدا، وعميق سياسة العدو في مواجهتنا، إذ يصبح جرثومة تحاصر الإنسان وتسد عليه كل المنافذ، وتحصن نفسها بأن تجد لها مستقرا في عظامه، حيث لا يمكن للإنسان الانتباه لوجودها، وهناك تضع بيضها، وتتغذى على أجود ما فيه، مخ العظام، حتى إذا كثرت في غفلة منه، غزت الجسد وأتت عليه، تقول:
يتكالب الأعداء على وطني
يدخلون برا وبحرا
في عظامنا يتناسلون
الثالثة، وتصور واقع الأمة وحالها، فهي أمة تخالف القواعد، فكلما ظن العدو أنه أماتها، إلا وانبعثت من رماد موتها، كطائر العنقاء، ولعل في ذلك إشارة من الشاعرة إلى تجربة الموت والحياة التي عرفها الشعر العربي الحديث، حيث الموت مطلب من أجل الحياة، ألم تقل العرب:"أطلب الموت توهب لك الحياة"، تقول الشاعرة:
عجبي لأمة
لا تنهض إلا بالقتل
خاتمة:
تضافرت جملة من القضايا لتعطي لهذا المتن الشعري عمقه ودلالته في الكشف عن ذات مؤرقة بما يحيط بها. فلا تكتفي بوصفه وإنما تتفاعل معه إيجابا عبر صهره في عالمها المفعم بأفق رحب يرى الكون فسيحا يسع الكل، فتعيد تشكيله بما يجعل منه بستانا وردي المشاعر، وإن كانت صور القتل تسعى إلى اغتياله.
الهوامش:
[1]- الديوان: 30.
[1]- الديوان: 30.
[1]- نفسه: 32.
[1]- الديوان: 23
[1]- نفسه: 26.
[1]- نفسه: 30.
[1]- نفسه: 30.
[1]- نفسه: 33.
[1]- نفسه: 9.
[1]- نفسه: 7.
[1]- نفسه: 8.
[1]- نفسه: 33.
[1]- نفسه:18.
[1]- نفسه: 18.
[1]- نفسه: 9.
[1]- نفسه: 10
[1]- نفسه: 7.
[1]- نفسه: 9.
[1]- نفسه: 15.
[1]- نفسه: 6.
[1]- نفسه:
[1]- نفسه: 5.
[1]- نفسه: 17.
[1]- نفسه: 8.
[1]- نفسه: 9.
[1]- نفسه: 10.
[1]- نفسه: 8.
[1]- نفسه: 13.
[1]- نفسه: 17.
[1]- نفسه: 5.
[1]- نفسه: 56.
[1]- الديوان: 61
[1]- نفسه: 49/50.
[1]- نفسه: 64.
[1]- نفسه: 71.
[1]- الديوان: 27.
[1]- نفسه: 45.
[1] - نفسه: 47.