"إن الفلسفة تربية عقلية تهدف إلى الارتفاع بالإنسان من حضيض التبعية والإذعان إلى ذروة الاستقلالية والبرهان" إنها واحدة من الخلاصات التي ذيل بها الدكتور والشاعر عبد الله الطني كتابه الموسوم ب: الفلسفة والتربية : في تعلم الفلسفة وتعليمها لدى أبي نصر الفارابي والمتمعن الفاحص لها ليدرك الرسالة السامية التي تؤديها الفلسفة ، خاصة في ظل مجتمع تتلاطم فيه أمواج الإديولوجيا العاتية وفي ظل الهجمات الإعلامية الشرسة التي تسوق الفكر المعلب والجاهز بعيدا عن التحري والمساءلة العقليين. وعليه يغدو تعلم الفلسفة وتعليمها أمرا ضروريا يكتسي مشروعيته للاعتبارات الأنفة الذكر .فكيف تسمو الفلسفة بالإنسان وتنتشله من براثين القطيعية إلى رحاب الفاعلية والحرية؟
إن المتأمل في المتن الفلسفي السقراطي ومنه الديكارتي والكانطي على الخصوص ،ليلفي أنها متون خصبة تجسد بحق السعي نحو الرقي بالإنسان إلى المستوى الذي ينسجم مع طبيعته الإنسانية العقلية، وذلك من خلال ترسيخ ثقافة تنبني أساسا على التمحيص والنقد والمساءلة وهي بحق من الآليات التي لا غنى عنها في تعلم الفلسفة وتعليمها.
فإذا كانت روافد التنشئة الاجتماعية متعددة ومختلفة ،فإن كل ما يستدمجه الفرد في بنية شخصيته عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية تلك -خاصة في مرحلة القصور الفكري التي تظل رواسبها عالقة في ذهن الإنسان حتى وهو في مراحل متقدمة من عمره - لا يخلو من أعطاب تصاحب هذه العملية ،وعليه يكون منطق التبين بما هو أسئلة عميقة تروم استجلاء الحقائق الثاوية وراء الأشياء والأفكار الناتجة عن العقل الإنساني مطلبا ملحا وضروريا، فالحياة الإنسانية تتجاذبها رغبات التحكم والسيطرة عبر آلية هي الإعلام فأصبحنا نتحدث عن صناعة الرأي العام ،وتوجيه الرأي العام، وهي تجليات بارزة للتحكم والتوجيه لم تسلم منها مجالات أخرى نورد منها الفن التشكيلي: فإذا كان الفنان قادرا على إماطة اللثام على مجموعة من الظواهر الاجتماعية كالفقر والبؤس والحرمان والتسلط والقهر والهشاشة انطلاقا
من الفن الانطباعي الذي يؤدي وظيفة إنذار وتنبيه المسؤولين أو خلق وعي أو رأي عام إنساني متعاطف ومستنكر لمجموعة من الممارسات، فإن آلة التحكم التي تسعى إلى استبلاد الآخر ابتكرت نوعا آخر من الفن ومولته إنه الفن التجريدي: حيث يكتفي الفنان برسم خطوط وأشكال هندسية ملونة لا تؤدي أية رسالة .كل ذلك لأن الفن الانطباعي غير مرغوب فيه إذ يعري الواقع وينقله كما هو. ولأن وقع الصورة - اللوحة الفنية -أشد على نفس ووجدان المتلقي من وقع السهام المهند ، التجأت السلطة الكليانية إلى ابتكار الفن التجريدي الذي لا يلامس الواقع ولا يحمل في طياته أية تيمة تذكر .
إنه نموذج واضح للتحكم والتوجيه ورغبة في صناعة الذوق الذي ينسجم مع تطلعات السلطة التي تسعى جاهدة إلى خلق إنسان إمعي تابع "كالأنعم بل هم أضل" إذ "الإمعة" يشير إلى التابع لكل أحد على رأيه بدون تمحيص ولا نقد( أورده ابن منظور في لسان العرب).
وهو حد يحمل دلالة التماهي المطلق مع وجهات نظر الآخرين دونما تساؤل ولا تمحيص،فيكون الشخص الإمعي شخصا قد عطل ملكة العقل لديه فيتذاوب مع وأمام آراء ذوات أخرى ويمارس بالتالي الحجر(بكسر الحاء) على العقل الذي وسمه الفيلسوف طه عبد الرحمان بخاصية التكوثر العقلي.
لقد غدا من الثابت الآن ، أن الإمعة نعت دنيء لا يستطيع صاحبه الانفكاك من آراء الآخرين والأخذ بها دون إعمال منطق التبين الذي يحمل دلالة الغربلة والتمحيص قبل إبداء حكم ما أو وجهة نظر معينة. إلا أنه ورغم ما قيل من كلام لا يتسق لا مع المنطق ولا مع العقل حول الإمعة ،فإن الواقع الاجتماعي يحبل بممارسات لا مبرر لها سوى "هذا ما ألفينا عليه آباءنا" ومن هنا الحاجة إلى الفلسفة بما هي نقد ومساءلة حجاجية .ومن الدروس البيداغوجية التي تجسد منطق التبين و المساءلة ،ما دار بين إبراهيم عليه السلام وقومه في مشهد درامي حجاجي ماتع نلخصه في قوله تعالى:
* وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ
* إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ
* قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ
* قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ
* قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ
* قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ
* وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ
* فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ
* قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ
* قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ
* قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ
* قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ
* قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ
* فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ
* ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ
* قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ
* أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
إنه نموذج للعقل التساؤلي الذي لا يكف عن المساءلة والتمحيص
إن صعوبة إدراك الحقائق كما هي - نظرا لما يلفها من أفكار مؤدلجة وواهمة - جعل بعض الفلاسفة يقترحون مناهج تسعفنا في التعامل مع الحقائق وتقصيها مثال ذلك ،المنهج الجنيالوجي الذي بلوره الفيلسوف فريديريك نيتشه والفينومينولوجي مع إدموند هوسرل وغيرها من المناهج التي لا تحيد عن منطق التبين والتمحيص العقليين .
إن غياب المساءلة والنقد بما هما آليتين عقليتين. يجعل الذات غارقة في أوحال الأوهام ويجعلها أقرب إلى وضع تلك البقرة التي أحجمت عن أكل التبن ولما ألبست نظارات خضراء أشبعت التبن التهاما.