ذات يوم و أنا أتجول في مدينة مراكش قصدت مقهى شعبيا لارتشاف كأس قهوة و أخذ قسط من الراحة بعد نهار كامل من التجوال, و لكم كانت المفاجأة كبيرة و أنا أجلس على الكرسي جنبا إلى جنب مع سائح من نوع خاص,سائح فريد من نوعه,لم يكن جليسي ذاك سوى سراق زيت(صرصور) يحمل جنسية ألمانية.
ابتسم في وجهي مسفرا عن أسنان ناصعة البياض, بعد أن استشرته حول ما إذا كان الكرسي بجنبه فارغا و قبل أن يتكلم عرفت من سحنته الشقراء و قامته الفارعة أنه من أحفاد هتلر.
اقتربت منه لأتعرف عليه أكثر و سألته بالفرنسية و بطريقة مهذبة:
- ما اسمكم؟
فرد بلغته الأم الألمانية رغم أنني اكتشفت فيما بعد أنه يتقن لغات أخرى من بينها الفرنسية:
- اسمي Kakerlake (تعني سراق الزيت بالألمانية),ثم توجه إلي بنفس السؤال و بأسلوب أكثر تهذبا:
- و سيادتكم؟
- مواطن مغربي مع وقف التنفيذ!
و تابعت:
- يبدو من سحنتكم أنكم من ألمانيا العظمى,أليس كذلك؟
-بلى أنا من الجنس الآري,كيف عرفتم؟
-نعمة الخير و الرفاهية و الرقي بادية على وجهكم الصبوح,أضف إلى ذلك ما سمعته عن سراقي الزيت الألمانيين و ما يعيشون فيه من بحبوحة و رخاء,بربكم هل ما يقال عنكم و عن ظروف عيشكم صحيح؟
-مثل ماذا بالضبط؟
-مثل أنكم تتمتعون بكامل حقوق المواطنة و تلجون مستشفيات من الطراز الرفيع و تستفيدون من التغطية الصحية و تمارسون الرياضة و حق الانتخاب و تكوين الأحزاب و النقابات و حرية التجوال و الشغل و التعبير و الإضراب و تتعلمون في مدارس رفيعة...؟
-(يضحك),كل ما تفضلتم به صحيح و ما الغريب في الأمر؟كل ما ذكرتموه مجرد حقوق بسيطة؟.
- بسيطة؟! تساءلت مستغربا.
-نعم هي حقوق بسيطة يجب أن يتمتع بها كل مواطن,و لا يمكن أن نعيش بدونها.ثم أردف:
- و ما هي ظروف سراقي الزيت عندكم؟
ترددت في الإجابة,لأني أحسست بخجل عارم يغمرني,قبل أن أجيب:
-لا أخفيكم سيدي,سراقو الزيت عندنا يتمتعون أيضا بالمساواة معنا فلا فرق بينهم و بين بقية المواطنين,نعيش و نتعايش في نفس البيوت,نتداوى في نفس المستشفيات,نأكل من نفس الصحن,ننام في غرفة واحدة,نستفيد من نفس الحقوق,لا نحس بأي فرق بيننا و بينهم و لا بأي امتياز يميزنا عنهم.
-إذن لا فرق بيننا و بين سراقي الزيت عندكم؟
-تماما لا فرق سوى أنكم أفضل منا بكثير,ألا تروا معي أن سراق زيت ألماني أفضل من مواطن مغربي؟انظروا حضرتكم مثلا, لقد قلتم في سياق حديثنا إنكم زرتم أكثر من خمسين بلدا في كل أنحاء العالم,و تتقنون خمس لغات,تنوون أن تصبحوا مستشارا ألمانيا في المستقبل,تتقاضون راتبا شهريا يفوق بعشرة أضعاف الحد الأدنى من الأجور عندنا,تمتلكون سيارة فاخرة من آخر ما أبدعته اليد الألمانية و فيلا في ميونيخ و أخرى في دولة من أنظف دول العالم سنغافورة,ثم انظروا إلي أنا المواطن المغربي المقهور الذي لأول مرة أزور مراكش,لا للسياحة و لكن لغرض هام,انظروا إلى هيئة هؤلاء البؤساء و حالتهم المتردية,انظروا إلى هذه الطرقات المهترئة و "التجهيزات" المتآكلة,لن أخبركم عن راتبي لأنه ليس لي راتب أصلا,لن أخبركم عن ظروف العيش...ثم أحسست بدمعة تترقرق من عيني فلزمت الصمت,بعد أن تلمست بواعث الشفقة و الصدمة في ملامح هذا المواطن الألماني الفريد(سراق الزيت),وفي هذه اللحظة تمنيت من أعماق قلبي لو أصبح ذبابة حاملة للجنسية الألمانية.
توجه إلي نديمي بالسؤال:
-و ما السبب فيما تعيشونه من قهر و فقر و ظروف مزرية؟
-السبب يا صديقي هو كثرة سراقي الأموال و ناهبي الخيرات في هذا الوطن الجريح و غياب أية محاسبة أو معاقبة,يأتي سراق بعد أن يكثر من الوعود و العهود ثم يملأ شكارته و يمضي و يتركنا "على الضص" و هكذا دواليك.
أنهينا اللقاء بغذاء مشترك,دفع ثمنه سراق الزيت الألماني الذي لم يكن يشرب سوى الماء المعدني لأنه يخشى على كليتيه من ماء الصنبور,بعد الانتهاء قام إلى بالوعة الماء ليغسل أسنانه بمعجون خاص جلبه معه من جرمانيا,بينما اكتفيت أنا بلحس أصابعي.
أهدى ما تبقى من الطعام لمجموعة من سراقي الزيت المغاربة المنتشرين هناك,وقبل الفراق سلمني رقم هاتفه و عنوانه و رحب بي في ألمانيا في حال ذهبت لزيارتها و ألح علي أن نلتقي هناك ليجول بي في بلاد العظيمة أنجيلا ميركل,بلاد العز و الكرامة السراق-زيتية,فما بالك بالإنسانية؟!.
وعدته أنا أيضا بأني سأفعل و إن كنت في قرارة نفسي متيقنا بأن السفر إلى ألمانيا للسياحة لن يتحقق حتى في الأحلام,فكيف لي أنا المقهور مع لقمة العيش,أنا الذي لم أزر أغلب مدن المغرب و لا أعرف عنها شيئا,أنا الذي مازلت أعتبر الخبز أسمى الحقوق,أنا الذي لم أتجاوز بعد عقدة أغروم و اعتبر الحصول عليه ترفا ما بعده ترف أن أزور ألمانيا بهدف السياحة؟!.
قبل أيام تحدثت مع صديقي الألماني في الفايسبوك فأخبرني أنه في إجازة إلى إزلندا.
لا تستغربوا و لا تتعجبوا من فضلكم, فأقسم بشرفي أنه حوار حقيقي و ليس متخيلا و أي تشابه بين شخصياته و شخصيات من الواقع هو من محض الصدفة.