كتب الصحافي الأمريكي توماس فريدمان قبل أسابيع في «نيويورك تايمز» من شنغاي كيف أن شُغل حُكّام الصين الشاغل هو تطوير أداء رياض الأطفال والارتقاء بتدريس الرياضيات في التعليم الأولي، وتذكر فريدمان كيف أن مدينة تعز اليمنية التي كان بها قبل سنتين، وليس بها مجاري للمياه ولا قنوات للصرف العادم، موزعة بين حرب طائفية، ليخلُص بنبرة تهكمية أن لا يمكن للمرء ولا لمجتمع أن يدخل العصر وهو مسكون بقضايا طُرحت قبل أربعة عشر قرنا حول من الأولى بالخلافة.
ذكرني ذلك بطرفة يحكيها العراقيون مفادها أن عراقيين، واحد شيعي والثاني سني يعيشان بأمريكا، اختصما اختصاما شديدا حول علي ومعاوية أيهما أولى بالخلافة، وذهب كل واحد مذهبه، ثم تشابكا بالأيدي، ولم يكن بد من تدخل الأمن، فاستمع ضابط الأمن لرواية كل واحد منهما، ولم يسَعْ رجل الأمن الأمريكي إلا أن يطالب بإحضار كل من علي ومعاوية للاستماع إليهما، فلما أخبراه بأن «الظنينين» ماتا قبل زهاء ألف وأربع مئة سنة، قر قرار رجل الأمن أن يسوقهما إلى مستشفى الأمراض العقلية.
هل برأنا من ثقل الماضي وشجونه. التاريخ ليس هو الماضي. التاريخ عملية اكتساب بأدوات نقدية، ونظرة مجردة. ثقل الماضي هو ما يجعل نرزح تحت ما يسميه المفكر عبد لله العروي، بـ Les cancres de l’histoire، وما أترجمه بـ«المُخلُّفين في مدارج التاريخ».
لم نبرأ من ثقل الماضي وقوالبه، ولم نقم بهذا العمل الأساسي، تفكيكه ودراسته دراسة علمية لكي لا يسكننا وينيخ على كواهلنا ويصدنا عن الحركة، رغم الجهود المبذولة من لدن مفكرين مستنيرين ولكنها لم تنفذ بعدُ إلى تجاويف المجتمع. وما تزال نظرتنا للإنسان وعلاقاته بالآخر هلامية تتأثر بالخوارق، وتزعم الأخلاقيات، ولم تدرك بعدُ ما العقد الاجتماعي، وما ضرورة الاحتكام للقانون كتعبير عن الإرادة العامة لحل التضاربات؟ لأسابيع متتالية لم يكن لنا من شغل سوى خوارق الصمدي واختراقات الشوباني، وما تناسل عنه، هل الحب حلال أم حرام، وفذلكة تعدد الزوجات ووصلات إخراجها..لم يكن الموضوع ليكتسي الحجم الذي واكبه لولا زعم الشوباني وصحبه الحديث باسم الأخلاق والوصاية على المجتمع باسم الأخلاق، بل التشهير على الخصوم باسم الأخلاق، أو الزعم بالأخلاق.
كنت أود أن ينصرف اهتمامنا إلى قضايا مصيرية مثل المنظومة التربوية التي وُضعت على المشرحة؟ وإذا كان لرجال السياسية أن يعرفوا ما ذا يريدون، فذلك لا يعفي من طرح السؤال عن الوسائل الكفيلة لبلوغ ما نروم. هل يستطيع تعليمنا أن يجيب عن سؤالين مصيرين، هما تمتين اللحمة الوطنية، والانغمار في العصر، أو بالتعبير الجاري، هل ستلتئم منظومتنا التربوية ومقتضيات الحداثة؟
الحداثة لا تحيط الإنسان بهالة. الحداثة السياسية تعترف بأخطاء الإنسان ونزواته، ترسم خطا ما بين الخاص والعام. الحداثة السياسية تتعامل مع الإنسان كما هو، أناني تحكمه مصالحه وتتحكم فيه، وتضبط ذلك في إطار القانون، والعقد الاجتماعي، وتتوجس من طهرانية مزعومة، لأنها ترى فيها تنميطا قسريا، ودعوى مبطنة إلى العنف المادي أو الرمزي..
نعم، لأي أن يزعم ما أراد، ولكن «الواقع أصدق أنباء من الكتب» إن جاز أن نُحوّر بيت أبي تمام.
في هذا العمل الذي نقوم به، والذي لا يمكن أن يستقيم من دون هامش الخطأ، دون الزعم بامتلاك الحقيقة، ولكننا نحسبه ضروريا لأنه تمرين شبيه بتَلَمُّس السبيل في طريق مُقفَرة، لا يُفهم كيف تُصوّب النِّصال وتُلقى الأحقاد لقول لا يطابق قول أصحاب «الحقيقة المطلقة» و«الأخلاق الناصعة التي لا شوب فيها». يتأذون من الرأي ويأنفون من التحليل، ويجيشون الأغرار للقول البذيء والكلام المسطح.
وقديما قال المتنبي، وما يزال في قوله أثر من حقيقة مؤلمة:
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم