الواحد و العشرون من شهر فبراير...تاريخ قد لا يعني شيئا للكثير من الناس...انها دعوة وتذكير لكل منا كي نوقف الزمن ونتمعن في دلالات وأهمية تخليد اليوم العالمي للغة الأم، تلك اللغة التي رضعناها من أثداء أمهاتنا، تلك اللغة التي خوطبنا بها ونحن كائنات عاجزة ضعيفة، تلك اللغة التي كنا بها نكف عن الصياح ما أن تنطق بها صوت الأم. قد يعتبر البعض الأمر مبالغة لكن الأمر أكثر من ذلك بكثير، فاللغة من مقومات حياة وفكر الإنسان، وهي روح الجماعة التي تكسب هذه الأخيرة حسا وإحساسا بالخصوصية والتميز، حيث لا يمكن للغة شعب ما أن تبقى حية وأن تتطور إذا لم يستخدم هذا الشعب لغته الأم كلغة للحياة اليومية.

لعل المناسبة تجرنا الى الحديث قليلا عن حيثيات ظهور هذا التخليد العالمي للغة الأم. فبعد فرض محمد علي جناح باسم الحكومة المركزية الباكستانية المتركزة في غرب باكستان والحاكم العام للبلاد في اجتماع جماهيري في 21 مارس عام 1948 ، بعد فرضه للغة الأوردية،  قامت الطبقات الوسطى الناهضة في بنغال الشرقية (جمهورية بنغلاديش الحالية) خلال سنتي 1950-1952 بانتفاضة عُرفت لاحقاً بـ"الحركة اللغوية البنغالية". هذا الإجراء الإقصائي دفع البنغاليين إلى خلق هذه الحركة كرد فعل مباشر، علما أن اللغة الأوردية كانت لغة الأقلية ولغة النخبة آنذاك، إلا أنها فرضت لغة وطنية وحيدة يتم التداول بها على الأراضي الباكستانية، وكان القرار الجائر قد باركه حاكم بنغال الغربية خواجة نظام الدين في تواطئ  سياسوي رخيص.


احتجاجاً على قرار فرض هذه اللغة إذا،  قام الطلبة بالتظاهر في إضراب وطني عام في بنغال الشرقية وقامت الشرطة الباكستانية بفتح النار عليهم. راح ضحية هذا العنف خمسة من الطلبة البنغاليين بالقرب من كلية الطب في مدينة داكا، العاصمة الحالية لجمهورية بنغلاديش. ونتيجة لذلك العنف من جانب الشرطة، اتسعت رقعة الاحتجاجات العارمة لتعم سائر الأقاليم البنغالية، مما أضطر الحكومة المركزية إلى الاعتراف باللغة البنغالية كلغة تتداول على قدم المساواة مع اللغة الأوردية في باكستان.. وقد قامت الحكومة البنغالية بتشييد نصب لشهداء الحركة أمام كلية الطب في داكا، يعرف بنصب شهيد منار.

بعد هذا الحدث الذي طبع تاريخ اللغات، شرع في تخليد اليوم العالمي للغة الأم تشجيعا للتنوع اللغوي والثقافي،وسعيا منها إلى حفظ هذا التنوع وكذا رعاية التقاليد والتراث اللغوي بشكل يعزز التضامن بين البشر ويؤسس للتفاهم المتبادل والحوار والتسامح، بادرت اليونسكو بعد اقتراح من بنغلاديش وافقت المنظمة عليه إلى تخليد هذا اليوم تحت عنوان "اليوم العالمي للغة الأم" بعد مرور عدة عقود على هذا الحدث وذلك في 17 نونبر عام 1999، مبادرة حظيت بدعم من ثمانية وعشرين دولة.

هكذا إذا بدأت اليونسكو تحتفل بهذا العيد كمناسبة سنوية، وتدعو جميع أعضاء هذه المنظمة الدولية للمشاركة في هذا الاحتفال من أجل الحفاظ على التنوع الثقافي واللغوي وتعدد اللغات. وأصبحت اللغة في صلب أهداف منظمة اليونسكو، كما خصصت جائزة توزع في هذا اليوم على اللغويين والباحثين ونشطاء المجتمع المدني لقاء عملهم في مجال التنوع اللغوي والتعليم المتعدد اللغات. وشرعت المنظمة في توزيع هذه الجوائز منذ عام 2002، وحازت عليها عدة شخصيات تهتم بميدان اللغات إضافة إلى عدة مؤسسات تعليمية من أحد عشرا بلداً. من هنا راح الجميع يبدون اهتمامهم بحفظ لغة الأم.

إن الحديث هنا يدور عن عالم يتكلم سكانه بما يزيد عن ستة آلاف لغة، وبعضها يتهددها الانقراض وخاصة في منطقة الشرق الأوسط ، إضافة إلى اسكتلاندا والهند وكندا واليابان وماليزيا والمكسيك والأرجنتين. وللإشارة، فقد انمحت في العهود الماضية من ميدان التداول أكثر من مئتي لغة. وبذلك خسرت البشرية منظومات لغوية وثقافية بأكملها جراء تعامل بعض البشر بفظاظة وتعصب مع اللغات والثقافات.

إن مبرر الاحتفال بهذه الذكرى واستحضار أهمية اللغة الأم يتلخص في الأهمية الكبرى للغة الأم في بناء شخصية الطفل، فقد أظهرت نتائج كثير من الدراسات أهمية تعلم الطفل لغته الأم قبل الشروع في تعلمه اللغة الأجنبية.

عودة إلى وطننا المغرب، لنتساءل:  لماذا  أهملنا اللغة الأم للمغاربة؟ إننا نحتاج في عالم اليوم إلى العناية والبحث في إحياء اللغات والثقافات التي تتعرض للاندثار والنسيان فما بالك بمن يحاول ممارسة الإقبار و الطمس في حق موروث إنساني يجب ألا يخضع للحسابات السياسية الضيقة، والمواقف الإيديولوجية المتلونة، لقد أصبح من الواجب على المسؤولين، ومن الضروري على الغيورين على ثقافة هذا الوطن وتنوعه، يتعين عليهم الضغط على الجهات المعنية ممن  يتجاهلون أو يصرون على تجاوز هذا التراث الإنساني بدوافع عنصرية أو "دينية" متطرفة تارة، أو بدعاوى بناء دولة القومية العرقية تارة أخرى. وانسجاماً مع "يوم لغة الأم العالمي" وتوصيات اليونسكو في هذا المجال، يتوجب على السلطات، وخاصة المؤسسات التي تعني بالتربية والتعليم والعلوم والأدب والثقافة، أن تعير أهمية خاصة للغة الأم وتجلياتها في بلد كالمغرب الذي يتسم بالتعددية اللغوية والثقافية. ان اللغة الأم بهذا المعنى ستظل في النهاية مسؤولية الجميع.
لقد أشارت دراسات  جالاجر (2001) إلى أن قيام المدارس الدولية بوضع الأطفال الصغار في برامج الطفولة المبكرة دون دعم من اللغة الأم له آثار سلبية على الأطفال. من جهة أخرى أشار "دولسون" (1985) إلى أن تعلم الأطفال للغتهم الأم من شأنه أن يساعدهم في بناء الأساس الأكاديمي الذي سيساهم في نجاحهم الدراسي والمهني في المستقبل. وأظهرت نتائج دراسة أجراها "ديرجونوجلو" (1998)على 46 طفلا في الصف الأول أن القدرة الجيدة على القراءة باللغة الإسبانية (اللغة الأم) قد انتقل أثرها وساعدت على تنمية قدرتهم على القراءة باللغة الإنجليزية (اللغة الثانية). ووجد "هانكوك" (2002) أن أطفال الروضة من الناطقين باللغة الإسبانية الذين تعرضوا لكتب باللغة الإسبانية حصلوا على درجات في اختبار مهارات التهيؤ للقراءة أعلى من أقرانهم الناطقين باللغة الإسبانية ممن تعرضوا لكتب مكتوبة باللغة الإنجليزية.

كلها اذا مؤشرات تؤكد على أهمية اللغة الأم في بناء شخصية الطفل وكذا في رسم مسار تعلمي ناجح .والحال هذه، فالدولة المغربية مدعوة إلى الانتصار للغات الأم للمغاربة بعيدا عن كل ولاء ايديولوجي أيا كانت طبيعته، أو إرضاء لعقليات محافظة اعتادت على فرض رأيها في سياق تاريخي أضحى متجاوزا.