عبد العالي حبران - جديد انفو
التاريخ النضالي للمؤسسات السياسية الحزبية، هو ما يشكل ماهيتها ويرسم معالم هويتها الخاصة. والتطورات التي تعيشها من صميم النقاشات الفكرية التي تصاحب بلورة القرارات داخلها، وإفراز التوجهات الأساسية فيها، وتغيير المواقع ووجهات نظرها بناء على ما استجد من أحداث ووقائع في الساحة السياسية داخل كيان الدولة…
بيد أن هذا المخاض المحايث لعملية الانتقال من مستوى لآخر، قد يولد أعطابا مصاحبة تكون مؤثرة تأثيرا سلبيا، وربما تكون بمثابة رصاصة الرحمة على التنظيمات السياسية. وهو ما يطرح مأزق السيرورة النضالية و رهان الحفاظ على الرصيد النضالي. وهذا حتما أمر يأتي على الشرعية التاريخية المؤسسة والحاجات الأولية lesbesoins élémentaires ». « الضرورية.
إن أي حزب سياسي كيف ما كان نوعه، لا تقاس جدوائيته بالمساهمة في ضبط المجال السياسي فقط، لأن هذا الدور تقوم به هيآت جمعوية، ربما بفعالية أكثر. ونحن رأينا كيف يعمل النسيج الجمعوي، وينجز مشاريع، أ ويساهم في إنجازها. رأينا كيف يؤدي الوظيفة التأطيرية ببراعة. كل ذلك وفق مقاربة تتكاثف فيها الجهود، وتتنافس الإرادات بروح تلقائية بانية، وغيرة جمعوية فاعلة، تقوم باستحضار قيمة “التراضي بالتقاطع ” /”التراضي التناظري “أو كما يسميه الفيلسوف راولز “consensus par recoupement”
لهذا، نعتقد أن الوظيفة الحزبية تتجاوز هذا المنظور، لأن الجدوائية ههنا أبعد وأعمق وأجل، إذ تقاس بالجواب الذي يقدمه التنظيم الحزبي لأسئلة حارقة يشكل تجاوزها إضافة نوعية على مستوى سبل الإقلاع الحضاري برمته. وهذا ما نلمسه في قولA.Touraine:
“لا تنحصر وظيفة الأحزاب فقط وفق ما تمليه تطلعاتها الذاتية أو في التماهي مع التقاليد الدولتية القائمة، فوظيفتها تتأسس أيضا تبعا لمستوى تدفق وانتظام المطالب الاجتماعية” هذه المطالب لا تأتي بصورة الحاجات التكميلية les besoins dérivés » « دائما فقد تكتسي طابع الضرورة الملحة في بعدها السياسي أو الاقتصادي، بناء على تطلعات المجتمع وما يشرئب إليه.
إن أسوأ وضع يمكن أن يعيشه حزب سياسي ما، هو الوضع الذي يحس فيه أن مدة صلاحيته قد انتهت، بحيث لا تستطيع فاعليته النضالية أن تسع المتغيرات السياسية ومتطلباتها، إذاك تطفو الآليات الدفاعية اللاشعورية لتخفف من التأزم النفسي الحاد الذي يتخذ صورة حنين نوسطالجي لاستعادة أمجاد الذات التنظيمية التي تمر كطيف عابر في شكل صورة ذهنية، سرعان ما تنكسر على صخرة الواقع بمجرد تبديد حالة اللاوعي اللحظية.
إن تغييب النقاش الفكري يولد الفراغ الإديولوجي فيطغى على التنظيم البعد التقنوي و التقني الذي يركز على العرض دون الجوهر. هذا الأخير يمهد الطريق لتتعشش التجاذبات والاصطفافات والولاءات على حساب الثوابت المؤسسة والمنطلقات الديموقراطية المؤطرة، فيعيش التنظيم على وقع تتشظى فيه الجهود وتتفكك الإرادات و تتواجه أحيانا.
إن التنظيمات السياسية التي لم تبلغ المستوى الرفيع، الذي يتواصل فيه المسار وفق رؤية تربط السابق باللاحق واستنادا إلى منهجية تسائل الخيارات ومبلغها وتستحضر الانتظارات الشعبية وضرورتها ومنطق الدولة وإلحاحيته، هي تنظيمات تعيش على وقع فوضى تنظيرية وهلامية تنظيمية يغيب فيها النقد الذاتي المقوم، فيصاب النسق بندوب وربما تصدعات قاصمة، تفتح المجال للانتهازية الطفيلية والهستيرية المتهافتة المفصولة عن كل وعي تنظيمي والتزام نضالي، فتقدم الاستقلالية استقالتها، وتتمنع الديموقراطية عن الإنبات، فتغيب المناعة السياسية وينمو الاستبداد التنظيمي، فيصير التماهي محمودا والتملق محمدة، والاختلاف مكروها والنقد مذمة، فيعيش النسق ثورة كوسمولوجية على ذاته، فلا يكون اللاحق كالسابق، بل قد يكون الأخير ثورة هوجاء على الأول، هنا لا تكون الذات الحزبية غريبة على الأخر فقط، بل تكون غريبة على ذاتها وماهيتها …
إن السلطة فعالية تصقل الفاعل السياسي أكيد، لكنها قد تدجنه في غياب رقابة تنظيمية متعالية و صارمة لا تحابي ولا تتحامل، وما أكثر التنظيمات السياسية التي تنصهر في فعالية السلطة فتخضع لإكراهاتها و تهيم في إغراءاتها، وهذا ما حدث لرفاق ” اليوسفي” لما كانوا مظلة حامية تواجه الأسئلة المجتمعية الحارقة بأداة تنظيمية مقدرة وإشراقة تنظيرية مفصلة وفاعلية نضالية منجزة، لكنهم في لحظة معينة آثروا السلطة على المجتمع، والتبرير على التغيير، والمغانم الذاتية على حساب المكاسب الشعبية، فعاشوا لحظة الترف الخلدوني، فانهالت عليهم الضربات من كل جانب، واستقوت عليهم جميع العصبيات السياسية، حتى أصيب تنظيمهم “بالدوخة السياسية”، جعلته يفقد بوصلة الاصطفاف، فتاه ولم يجد سوى عدو الأمس الذي أمعن في تفكيكه ليصطف إلى جانبه، فانظروا كيف كانت عاقبة شخصنة التنظيم بإضفاء طابع الكاريزماتية عليه، وتغييب النقاشات الفكرية وما تولده من حرقة السؤال وإحراجاته…