محمد السلمي
في كل عام، يتوقف العالم عند محطة رمزية: اليوم العالمي للسياحة. لحظة للاحتفاء بما تحققه هذه الصناعة من مكاسب اقتصادية وثقافية، وللتذكير بأهميتها في بناء جسور التلاقي بين الشعوب. في مدن العالم الكبرى تضاء المعالم، وتُعلن الأرقام التي تتحدث عن الملايين من الزوار والمليارات من العائدات. لكن، ونحن نتابع هذه الأرقام، يطلّ سؤال ملحّ: أين موقع الجنوب الشرقي المغربي من هذا المشهد العالمي؟
الجنوب الشرقي.. ذلك الفضاء الممتد بين الجبال والواحات، بين القصور الطينية العتيقة والكثبان الرملية الممتدة إلى ما لا نهاية. فضاءٌ تتجاور فيه الذاكرة بالتاريخ، ويعانق فيه الإنسان طبيعة لم تفسدها يد الإسمنت بعد. هنا شُيّدت سجلماسة، عاصمة القوافل وملتقى الحضارات، وهنا صُوّرت أضخم الأفلام العالمية التي جلبت هوليوود إلى قلب الصحراء. ومع ذلك، يظل هذا الإرث الاستثنائي بعيدا عن عدسات العالم إلا في لمحات عابرة.
في زمن تتحول فيه السياحة العالمية إلى بحث عن التجارب الأصيلة، وعن الوجهات غير النمطية التي تمنح للسائح قصة يعيشها، لا مجرد صور يلتقطها، يبدو الجنوب الشرقي كنزا نادرا. فالعالم اليوم لم يعد مبهورا فقط بالمدن المزدحمة أو الفنادق الفاخرة، بل ينجذب أكثر إلى أصوات الأسواق التقليدية، وروائح خبز الأفران التقليدية، وحكايات الناس الذين يسكنون القصور القديمة. وهذا ما يملكه الجنوب الشرقي بوفرة، لكنه لم ينجح بعد في تقديمه كما ينبغي.
المعضلة لا تكمن في غياب المؤهلات، بل في غياب العناية. الطرق المؤدية إلى بعض القرى السياحية ما تزال وعرة، القصور التاريخية تنهار تباعا أمام صمت المسؤولين، الواحات تتعرض للاستنزاف، والطاقات المحلية – من شباب وفاعلين – تركت تصارع لوحدها. كيف يمكن أن ينهض السياح ليشدّوا الرحال إلى هنا، إن لم ننهض نحن أولًا لصيانة هذا الإرث وتثمينه؟
إن الحديث عن السياحة في الجنوب الشرقي ليس ترفًا، بل هو حديث عن مستقبل تنموي بديل. ففي منطقة تعاني من قلة فرص الشغل وضعف الاستثمارات، يمكن للسياحة أن تكون الشريان الذي يضخ الحياة، شرط أن تكون سياحة مستدامة، تحافظ على الإنسان قبل المكان. نحن لا نحتاج إلى مشاريع عملاقة بقدر ما نحتاج إلى رؤية واضحة، وإلى إرادة تجعل من هذه المنطقة جزءًا من الخريطة السياحية الوطنية والدولية، لا مجرد حاشية منسية.
اليوم العالمي للسياحة مناسبة للاحتفاء بما تحقق عالميًا، لكنه بالنسبة إلينا في الجنوب الشرقي يجب أن يكون لحظة للتساؤل والمراجعة: إلى متى سنظل نملك الذهب تحت أقدامنا وننظر إليه كتراب عادي؟ إلى متى ستبقى قصورنا مجرد أطلال تُلتقط أمامها الصور، بدل أن تكون فضاءات نابضة بالحياة تروي للعالم قصصنا العميقة؟
إن الجنوب الشرقي ليس فقط جغرافيا بعيدة عن المركز، بل هو ذاكرة وطنية وهوية حضارية. وإذا لم نلتفت إليه اليوم، فغدًا قد يكون الأوان قد فات. والسياحة، إن استثمرت بعقل وحكمة، يمكن أن تعيد لهذا المجال مكانته، وأن تجعل من الجنوب الشرقي ليس مجرد هامش جغرافي، بل قلبًا نابضًا يعكس غنى المغرب وتنوعه.
لقد آن الأوان أن نكفّ عن التعامل مع الجنوب الشرقي كفضاء سياحي ثانوي أو كوجهة بديلة لا يُلتفت إليها إلا عند امتلاء الفنادق في المدن الكبرى. هذه الأرض تحمل في تضاريسها وواحاتها وذاكرتها كنوزا حقيقية، لو استثمرت لكانت قادرة على خلق اقتصاد محلي متين، وإعادة الاعتبار للإنسان الذي ظل حارسا وفيًّا لهذا التراث دون مقابل.
إنها صرخة من قلب القصور التي تنهار في صمت، ومن عمق الواحات التي تجفّ، ومن أصوات الشباب الذين يحلمون بفرصة عمل داخل أرضهم بدل الهجرة منها. صرخة تقول: التفتوا إلينا قبل أن نفقد ما تبقى، قبل أن يصبح هذا الإرث مجرد ذكرى في كتب التاريخ وصور قديمة على جدران المتاحف.
السياحة ليست مجرد شعار نرفعه في المناسبات، بل مسؤولية مشتركة. وإذا كان العالم يحتفل باليوم العالمي للسياحة، فإن الجنوب الشرقي يحتفل اليوم بالأمل الأخير في أن يجد من ينصت لندائه، ومن يؤمن بأن المغرب الحقيقي لا يكتمل إلا بجميع مكوناته...