من إعداد: فاطمة الزهراء بكوري

   التراث أو الموروث كلمة عربية فصيحة، وهو مجموعة التقاليد والآثار والثقافة الموروثة التي تركها السابقون لمن بعدهم من علوم وفنون ومبانٍ ومعمار، ويعني أيضًا ما نستخلصه من الموروث من سلوكيات ومعاني مفيدة لحياتنا المعاصرة، وفي هذا المعنى تتلخص أهمية الموروث، كما يضم هذا الأخير مجموعة القيم والمبادئ والفنون القديمة وعَرْضُها والحفاظ عليها، وتكمن أهمية الموروث أيضًا بأنه نشاط معاصر يمكن أن يدخل في السياسة والحوار بين الثقافات المختلفة، وقد يكون قاعدة للتنمية الاقتصادية، أي أنه جزء من الحاضر، وسيكون جزءًا من الغد الذي سيُبنى عليه المستقبل.

    والموروث لا يقتصر على نوع واحد بل توجد أنواع مختلفة من الموروثات وجدت على مر العصور وبقيت مخلدة حتى يومنا الحاضر لتشهد روعة التراث، يمكن أن يكون حدثًا تاريخيًّا، أو إبداعًا في مجال الأدب أو لوحة فنية أو اختراعًا علميًّا أو نحتًا أو بناءً معماريًّا أو أمثالًا شعبية أو تقليدًا معيّنًا، و هذه الموروثات هي التي تشكل هوية المجتمعات وتميّزها عن غيرها، ومن أنواعها: الموروث الديني، والطبيعي، والثقافي، واللغوي، والعلمي، والأدبي، والحضاري..

    وما يهمنا في هذه الورقة البحثية هو الموروث الثقافي المغاربي خاصة بين بلد المغرب والجزائر وبعض القواسم المشتركة بينهما، حيث يشكل الموروث الثقافي ذاكرة المجتمعات، وصلة وصل بين أجيال الماضي والحاضر والمستقبل، وتكمن أهمية الموروث الثقافي في حفظ ذاكرة الأمم وهويتها؛ وبناء مقومات الحضارة الإنسانية والتعريف بها.

    وما يجمع المغرب والجزائر أكثر مما يفرقهم، صحيح أن السياسة فرقت بين الدولتين، حيث  جاءت في أواخر القرن الماضي أحداث سياسية عمقت الشرخ ما بين المغرب والجزائر وغيرهما من البلدان المغاربية، ولكن هناك أشياء كثيرة أخرى تجمع بين الشعبين هي أكبر من السياسة وأكبر من الأنظمة السياسية، وأكبر حتى من التدخلات الخارجية، هي روابط ثقافية وطيدة تخطت الحدود، ورسمت ملامح الوحدة الاجتماعية والثقافية بين الجزائر والمغرب، ويبقى هذان الأخيران أذكياء من أجل خلق صيغة للتكامل بدل التناحر بين دول المغرب العربي، وبالقدر الذي باعدت السياسة بين البلدين، قربت التقاليد المشتركة والموروث الثقافي المشترك أبناء الشعبين الشقيقين، وتظهر أوجه هذا الموروث الثقافي المشترك في اللباس والفن وبعض أنواع الموسيقى والطعام، خاصة في المناسبات الدينية والأعياد، يقول أحد الناشطين الجزائريين: لم أجد أدنى صعوبة في الاندماج بالمغرب.

   والموروث الثقافي يحيلنا إلى التاريخ إلى الماضي، حيث تبلورت ملامح الثقافة المشتركة بين بلدان المغرب العربي التي يؤطرها الدين، واللغة، والمسار الموحد من حيث مقاومة المستعمر خاصة بين الشعبين المغربي والجزائري، فكلاهما عانى من ويلات الاستعمار الفرنسي طيلة فترة زمنية معينة، ذاق خلالها الشعبان مرارته، وما خلفه من نتائج سلبية لا تزال مخلفاتها قائمة إلى حد الساعة في كل من المغرب والجزائر،  وواجهت مقاومات شعبية الاستعمار كمقاومة الأمير عبد القادر في الجزائر ومقاومة محمد بن عبد الكريم الخطابي في المغرب على سبيل المثال، وتواصل كفاح الشعبين طيلة حضور الاستعمار وقدما قوافل من الشهداء فكانت ثورتا "الملك والشعب" سنة 1953 في المغرب، وتبعتها ثورة "أول نوفمبر" سنة 1954 في الجزائر، انطلاقة حقيقية لتحرير المنطقة من الاستعمار وتوجت باستقلال البلدين، ويحفظ التاريخ وقوف الشعب المغربي إلى جانب أشقائه الجزائريين في تدعيم الثورة وإمدادها. 

يضيف الناشط الجزائري حمزة عتبي في هذا الصدد يقول: لم تتمكن أنياب السياسة من تمزيق الروابط المتينة بين الشعبين الجزائري والمغربي، فرغم أن الحدود البرية بين البلدين أغلقت منذ عام 1994، إلّا أن حدود القلوب لا تزال مفتوحة نظرا لحجم الترابط الذي ساهمت في رصده عوامل مختلفة عبر مرور الزمن، فزيادة على الأصل العرقي والدين واللغة، يتقاسم الشعبان الجزائري والمغربي هموم الماضي وتؤرقهما مشاغل الحاضر ويتطلعان لمستقبل أفضل.

  ومن بين الموروثات الثقافية التي لها قواسم مشتركة بين الثقافتين نجد ما يلي:

الهوية الأمازيغية: ما يميز المغرب والجزائر أن الثقافة الأمازيغية لا زالت حاضرة بكثرة من حيث التقاليد والعادات المتوارثة في الأعراس والمناسبات، ويتشابه الأمازيغ المغاربة والجزائريين في الكثير من العادات كاللباس والمأكل بفعل التقارب الجغرافي، ناهيك عن القصور الطينية التي بقيت شاهدة على تاريخ هذه الفئة.

اللكنة أو اللهجة الدارجة: اللهجة هي الجسر الذي يربط المغرب بالجزائر، حيث لا يجد الجزائري أي عناء في فهم اللهجة المغربية التي تتشابه مع لهجته والتي تصل إلى حد التطابق أحيانا مع اختلاف بعض المفردات، وحتى وإن بدت بعض المصطلحات المتداولة بين الطرفين غير مفهومة للوهلة الأولى، إلا أنه يمكن تدارك فهمها من خلال سياقها في الجملة بما في ذلك الكلمات ذات الاستهلاك المحلي الضيق، والشيء نفسه مع المغاربة، فاللهجة الجزائرية باختلاف مشاربها، إلا أنها تبقى واضحة بالنسبة للشعب المغربي ويستطيع استيعابها بشكل سريع وذلك راجع لتشابه الثقافات وكثرة التبادل، حيث أنهما متشابهان لدرجة تجعل أي أجنبي لا يستطيع التفريق بين الدارجة المغربية والدارجة الجزائرية، وما يميزهما أنهما خليط من عدة لغات مثل العربية والأمازيغية والفرنسية… ما يجعل الأجنبي  يجد صعوبة في تعلمها أو فهمها.

اللباس: المغرب والجزائر لهما تقاليد مشتركة، سواء في اللباس التقليدي أو في المطبخ أو في الرقص والغناء...

 واللباس من الأشياء المشتركة بين البلدين، ويظهر بجلاء خلال الاحتفالات الدينية والمناسبات والمواسم، ففي اللباس التقليدي نجد أن المغاربة والجزائريين يتشابهون في الجلابة وهي ميزة خاصة بهذين الشعبين، والجلابة لباس طويل له غطاء للرأس يلبسه الرجال والنساء معا، والاختلاف يكون في نوع الثوب المنسوج منه، وأيضا النقوش التي تُزين بها الجلابة.

الطبخ: أما بالنسبة للطبخ حتى ولو اختلفت التسميات إلا أن ما يجود به المطبخ المغربي والجزائري من أكلات شعبية لها امتداد تاريخي ومتأصل في عمق المجتمعين، متقارب من حيث التحضير والمقادير وكذلك المذاق، ويعد طبق "الكسكسي" باللهجة الجزائري و"السكسو" باللهجة المغربية من أيقونات الأطباق المشهورة في البلدين، إضافة إلى عادات غذائية مشتركة بين الشعبين خاصة في رمضان، حيث لا يمكن أن تخلو مائدة الإفطار المغربية والجزائرية من الحليب والتمر، والحريرة (من أنواع الحساء) وهو طبق يشترك فيه الجزائريون والمغاربة ويزين موائدهم في الكثير من المناسبات، وجرت العادة أن يكون هذا الطبق "الحريرة" الرئيس في شهر رمضان، وينتشر هذا الطبق في عموم المناطق المغربية بينما في الجزائر نجده فقط في المناطق الغربية للبلاد، إضافة إلى بعض الحلويات، وهي كلها مأكولات مغاربية، يبدأ بها الصائم الإفطار قبل الانتقال إلى الطبق الرئيسي.

 يقول حسن مرزاق في هذا الصدد (وهو ناشط اجتماعي من سكان مدينة وجدة القديمة): أنه "ترعرع إلى جانب العديد من الجزائريين، الذين انتقلوا للعيش في وجدة ومدن الشرق المغربي، بعد احتدام الصراع مع الاحتلال الفرنسي ولم يكن يشعر بوجود فارق في العادات الغذائية بين العائلات المغربية والجزائرية في مدينة وجدة، وأن هذا الإرث الغذائي المشترك لم يولد بالمصادفة، وإنما هو نتاج علاقة إنسانية على مر التاريخ، ويضيف: الذين يعيشون على خطوط التماس بين الدول دائما ما تكون لهم أنشطة وتقاليد مشتركة، وعلاقات مصاهرة تتجاوز بنادق حراس الحدود".

الفن: أما بالنسبة للفن بما فيه من رقص وغناء، فنجد "الراي" وهو نوع غنائي موجود في الجزائر والمغرب له عشاق كثر من كلا البلدين، أما بالنسبة للرقص فأيضا هناك تشابه بين الرقص التقليدي المغربي المنتشر في الجهة الشرقية للملكة، والرقص التقليدي الجزائري المنتشر في الجهة الغربية للجمهورية:

- أهل الشرق المغربي يسمون هذه الرقصة بـ "الركادة"

- وأهل الغرب الجزائري يسمون هذه الرقصة  بـ "العلاوي"

     وهناك تشابه كبير بين الرقصتين في الميزان والإيقاع كما أنهما تحملان دلالة عميقة على تقارب وتشابه الشعبين.

   ومن بين الموروثات الثقافية الأخرى التي يتقاسمها كلا الشعبين ما يسمى بفن "التبوريدة" أو "الفنطازية" والتي تبين أصالة وعراقة الرجل المغاربي، فرغم اختلاف تسمية عروض الفروسية في الجزائر والمغرب، إلا أنهما يشتركان في عشقهما تلك العروض التي تصنع الفرجة خاصة في المواسم والمناسبات الوطنية أو الدينية، فتعرف هذه العروض في المغرب باسم "التبوريدة" وفي الجزائر يطلق عليها اسم "الفنطازية"، وتمثل هذه العروض التي يؤديها فرسان من قبائل مختلفة، بالنسبة للشعبين رمزا للشهامة والفروسية التي تجسد في شكلها التاريخ المشترك بين البلدين للرجل المغاربي الأصيل الذي تنسجم فيه همّة الركوب وعراقة اللباس في نسق متجانس للخيل مشكلين بذلك لوحة فنية تظهر تراثا تاريخيا مجيدا.

   إذن مظاهر التوافق بين المغرب والجزائر كثيرة، أود أن أشير هنا إلى أن أغلب الموروثات الثقافية بين المغرب والجزائر نجد أنها في المغرب تقدمت وتطورت، أما في الجزائر ربما تكون قد وقفت في مكانها، لكن هذا لا يعني أن ما هو موجود في الموروث الجزائري شيء آخر عما هو في المغرب، وادعاء الجزائر أو المغرب بأحقيتها في موروث ثقافي ما، لا يخدم لا قضيه المغرب ولا قضيه الجزائر، فنحن نعيش في عصر يجب أن نتكامل لا أن نتنازع.

  باحث اقتصادي يقول في هذا الصدد: أن التكامل والاتحاد سيمكن المغرب والجزائر من لعب أدوار كبرى في المنطقة.

   أعجبني ما قالته الصحفية "هدى الطرابلسي" حين قالت المغرب الكبير إرث ثقافي واحد يتنازعه شركاؤه، الساسة يروجون للعولمة وعندما يأتي الأمر في شيء يخصنا نحن ينادون بالتقزيم وبالعداء وبالتنافس الغير الأخلاقي والمذموم.

   عندما تذهب لأي دولة ولأي منطقه في العالم تدخل إلى ماكدونالدز وتجده على نفس شاكلته في كل بلدان العالم، هذه هي العولمة، لكن نحن العرب والمسلمون لنا ثقافة قويه متقاربه نستطيع أن نسيطر على اقتصاد وسوق كبيرين، للأسف لا نجد دعما من السياسيين في منطقتنا العربية للتكامل العربي الإسلامي، فيذهب البعض إلى تحالفات بعيده فيما وراء البحار ويترك جاره الذي يشاركه 95% من ثقافته.

  وشخصيا أرى أن الموروث المغربي إذا أضيف على الموروث الجزائري فإنه سيكون فسيفساء غاية في الجمال، يكفيكم أن تعملوا مقارنه بين ما يسمى بالقفطان المغربي والقفطان الجزائري، فلو اندمجا مع بعض سوف يقدمان لوحه فنيه رائعة، بل إني أكاد أزعم أن تجميع الموروث الثقافي المغاربي سيوصلنا إلى تأليف اوركيسترا فنيه عالميه بكل المقاييس.

   القليل من المغاربة من يعرف أن الطرب الغرناطي نسبه إلى غرناطة هو فن يرجع إلى مدينه قرطبة واشبيلية وفالنسيا، واشتهر هذا الطرب الغرناطي في كل من تلمسان ومدينه وجدة، والذي يعيش في مدينه وجدة يفهم جيدا ماذا نقصد عندما نقول أن موروثنا الثقافي قد رضع من أم واحدة.

   وعلى العموم فالشعبين الجزائري والمغربي لديهما هوية مشتركة، هوية ثقافية لغوية، هذا بالإضافة إلى الهوية الدينية وهي الهوية التي تجمع بين جميع الدول الإسلامية، كما أن التكامل سيشكل تكتلا ثقافيا اقتصاديا يفيد الدول العربية والإسلامية والعالم ككل، فموقع المغرب العربي هو صلة وصل بين جميع القارات.. حيث أن الموقع الاستراتيجي يجعل دول المغرب العربي منفتحة على العالم، والموروث الثقافي لا يمكنه إلا أن يوحد هذه الأقطار، فسكان هذه المناطق في حاجة ماسة للتبادل الثقافي والاقتصادي، فحينما يتوحد الاقتصاد بالثقافة فإنهم يطغون على السياسة، لأن السياسة هي ما تمليه الشعوب، والشعوب تريد الرفهـ تريد حياة كريمة تتلاءم والمتطلبات الأساسية، فالسياسة أحيانا تطغى عليها أجندات أخرى، قد تعاكس مطمع الشعوب، والثقافة تمد يدها من هنا وهناك لتنعم في هذه الحضارة المغاربية، والثقافة لا تعترف بما تمليه السياسة من أهداف قد تؤدي إلا ما لا يريده الشعوب، والشعوب مطمحهم بسيط مطمحهم اقتصادي ثقافي، والحضارة تحدد المستقبل، ولهذا حان الوقت أكثر مما مضى أن تهتم هذه الشعوب بما يجمعها، ولعل الموروث الثقافي لعب دورا كبيرا في الماضي، وسيلعبه في المستقبل، فالشعوب المغاربية تطمح وتشد على أياديها بأن تستمر سويا لتحقيق الحلم وهو الوحدة المغاربية، ولعل الموروث الثقافي خير دليل على أن هناك ما يجمع وليس ما ينفر البعض عن البعض.

   وإنني من خلال هذه الكلمة ادعوا الحضور الكريم أن يفعلوا ويفكروا في اختراق الجو الراكد ما بين الدولتين، والمشاركة في التظاهرات الثقافية التي ربما تحيي ما أماتته السياسة، وتقرب الشعوب أكثر وأكثر، لأن هذا هو خيارنا الذي يبقى لنا كشعوب نتخطى به اكراهات السياسة ونضغط بطريقه ناعمه لإحياء التبادل الثقافي الذي يجب ألا ينقطع مهما كان، وهنا أذكر أن المطلع على تاريخنا العربي والإسلامي يجد أن الحركات الثقافية وحركات التأليف والترجمة لم تتوقف أبدا، رغم ما كان يحصل عند انتصار دول ونشوء أخرى، أو كثرة الحروب وبروز نزعات سياسية، ويوجد لدينا في ايدينا كمثقفين ومؤطرين عدة وسائل رقمية ومواقع التواصل التي يجب أن تبدأ ولا تتوقف في إبراز تقاربنا الثقافي.